الربيع العربي والفضاء العام

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما الجديد بالنسبة لحرية الرأي والتعبير وحرية الصحافة والفضاء العام والمجتمع المدني في عهد الثورات العربية والربيع العربي؟ هل تغيرت الأحوال وأصبحت الشعوب العربية تنعم بوسائل إعلام تهتم بمشاكلها وهمومها، هل أصبحت هذه الشعوب قادرة على التمتع بفضاء عام ورأي عام يساهم في العملية السياسية ويؤثر في صناعة القرار. أم أن العملية تحتاج إلى وقت أطول وليست بالسهولة التي يتصورها الكثيرون.

هل هناك فضاء عام في العالم العربي؟ وما دور الإعلام في بناء هذا الفضاء وتغذيته؟ وهل تتوفر مستلزمات هذا الفضاء حتى يتواجد، كالديمقراطية والفصل بين السلطات والمجتمع المدني وحرية الصحافة والتعبير ..الخ. إلى أي مدى ساهمت وتساهم الثورة الاتصالية وثورة المعلومات والطفرة الإعلامية والثورات الشعبية التي شهدها العالم العربي خلال العقدين الماضيين في بناء فضاء عام يتفاعل مع التطورات التي أفرزتها وسائل الإعلام الجديدة كالقنوات الفضائية والإنترنت، والمدونات وغرف الدردشة والبريد الإلكتروني...الخ.

يفرز الفضاء العام الرأي العام الذي يضمن حداً أدنى من مصداقية أخلاقيات السياسة. فالفضاء العام هو وسيلة لتعبئة الرأي العام حتى يكون قوة سياسية فاعلة يعمل على ترشيد السياسة وتحقيق مصلحة المجتمع. الفضاء العام هو الفضاء الذي يتفاعل الفرد من خلاله مع غيره من أفراد المجتمع من أجل تحقيق الحقوق التي يضمنها له القانون.

 وهذا يعني أن الفضاء العام هو حلبة المجتمع المدني النشط والفعال الذي يقوم بدوره في المجتمع كقوة مضادة للسلطة التي تريد أن تنفرد بالقرارات والتي قد تنحاز لمصالحها الضيقة أو تنحاز لفئة في المجتمع على حساب الفئات الأخرى. طور العالم الألماني يوجن هابرماس مفهوم الفضاء العام من خلال دراسته المرجعية لعصر التنوير الذي شهدته أوروبا في القرنين السابع عشر والثامن عشر من خلال انتشار الصالونات العمومية والمقاهي والنوادي والصحف.

وفي هذه الأماكن كانت تناقش القضايا العامة التي تهم الأفراد والمجتمع بكل ديمقراطية وحرية ومن أجل الوصول إلى الحكم الديمقراطي الرشيد. هذا المناخ الذي كان موجودا في أوروبا في عصر التنوير يرى هابرماس أن وسائل الإعلام الحديثة قد قضت عليه حيث أنها حوّلت الفضاء العام إلى حلبة من التلاعب السياسي والأيديولوجي والسيطرة على عقول الحشود والجماهير والقضاء بذلك على كل نقاشات جادة من شأنها أن تضع حدا لسيطرة أباطرة السياسة والمال على شؤون الحياة العامة.

ففي عهد العولمة أصبح الفضاء العام يعيش تغيرات مهمة جدا تتعلق بالجوهر والشكل والفاعلين والخطاب والأهداف والمقاصد. فماذا عن الشبكات الاجتماعية، هل بإمكانها أن تفرز فضاءً عاما افتراضياً يساهم في تحقيق الديمقراطية والتنمية الشمالية والرفاهية للشعوب العربية، أم أن الموضوع أكبر بكثير من الشبكات الاجتماعية.

الفضاء العام يشترط توفر حرية التعبير وحرية الاجتماع وحرية الصحافة وحرية المشاركة في النقاشات والتجمعات السياسية وفي صناعة القرارات. والوظيفة الاستراتيجية للفضاء العام هي المساهمة في تكوين رأي عام قوي وفعال لتحقيق أكبر قدر من الوفاق لتشكيل السياسات الوطنية والخارجية. فالفضاء العام يقوم على أربعة أسس هي: تجمع أفراد المجتمع حول قضايا الشأن العام بغض النظر عن المكانة الاجتماعية وبهدف تحقيق الوفاق الوطني من خلال النقاشات النقدية. أما بالنسبة لمستلزمات الفضاء العام أي شروط تواجده فإنها تتمثل في مناخ سياسي يوفر حرية التعبير والاجتماع وحرية الصحافة والحق في المشاركة في النقاشات السياسية وفي صناعة القرارات.

ما يلاحظ على الفضاء العام في القرن السابع عشر والثامن عشر وحاليا هو أن وسائل الإعلام في الماضي كانت تساهم في خلق وبناء فضاء عام نشط وفاعل وقوي أما وسائل الإعلام اليوم، وحسب هابرماس، فإنها تساهم في عملية التلاعب بالحشود والجماهير وجعلهم مستقبلين سلبيين ومجرد مستهلكين وبذلك تحولت وظيفة الإعلام من إشراك الجماهير في المجتمع كمواطنين سياسيين وإدماجهم في العمل السياسي وفي الشأن العام والمساهمة في مناقشة قضايا المجتمع والمشاركة في صناعة القرار إلى مجرد وحدات استهلاكية في عالم معولم.

وهذا يعني أن السلطة الرابعة بدلا من تكون حامية للفضاء العام أصبحت جزءا من الصناعات الجديدة الموجهة لتحقيق الربح على حساب أي اعتبارات أخرى. فالشركات العالمية للصناعات الإعلامية والثقافية اغتصبت الفضاء العام وحولته من فضاء رشيد إلى فضاء التلاعب من أجل الاستهلاك والمستقبِِل السلبي. وبهذا تحول الرأي العام من الوفاق الوطني المبني على النقاشات والحوارات المستنيرة إلى رأي عام مفبرك من قبل استطلاعات الرأي وخبراء الإعلام والمتلاعبين بالعقول.

تفاءل كثير من الملاحظين والمختصين والنقاد في بداية ثورة تكنولوجية الاتصال والمعلومات بأن هذا التحول سينعكس إيجابا على الفضاء العام ليس فقط في الدول الديمقراطية بل حتى في العالم العربي والدول النامية. لكن الواقع جاء عكس ذلك تماما حيث أن الإنترنت والإعلام الفضائي والمدونات وغيرها لم تستطع أن تتغلب على التلوث الإعلامي والثقافي والسقوط في دهاليز المال والسياسة.

ماذا نستطيع قوله بالنسبة للعالم العربي وواقع الفضاء العام فيه؟ الفضاء العام في العالم العربي يعاني من تناقضات كثيرة جدا، تتمثل في تبعية مزدوجة للنظام الإعلامي العربي، فهو نظام تابع للسلطة بطريقة أو بأخرى وبدرجة ثانية فهو نظام إعلامي تابع لإعلام خارجي ولقيم دخيلة ولا علاقة لها بالمحلي.

من جهة أخرى نلاحظ غياب شبه تام للمجتمع المدني، وللفصل بين السلطات، ولحرية التعبير وحرية الصحافة. أما وظيفة الإعلام كسلطة رابعة فالأمر غير قائم من أساسه في العالم العربي. أما عن التحولات التي شهدتها الساحة الإعلامية العربية خلال العقدين الماضين فنلاحظ زيادة في الكم ونوع الحرية في الحصول على المعلومات والأخبار ونوع من أفول الرقابة، لكن رغم كل هذا فإن مستلزمات الفضاء العام ما زالت شبه غائبة في معظم الدول العربية وهذا ما يفسر إلى حد كبير ضعف المجتمع المدني وضعف مشاركة المواطن العربي في الحياة السياسة وفي صناعة القرار.

 

Email