الإعلام العربي وصدمة التغيير

ت + ت - الحجم الطبيعي

أستسمح القارئ الكريم في اقتباس عنوان هذا المقال من عنوان الجلسة الأولى لمنتدى الإعلام العربي في دورته الـ11، التي انعقدت في مدينة دبي في شهر مايو المنصرم. ومن قراءة العنوان نلاحظ صدمة الإعلام من التغيير، وكأنه كان نائما ومستأنسا بالوضع الراهن.

والواقع أن الإعلام المحترف لا يُصدم، وإنما يتنبأ ويقرأ ويستشرف المستقبل. والملاحظ كذلك أن الإعلام العربي لم يكن فاعلا في التغييرات التي حدثت على الساحة العربية في السنوات الأخيرة، فمعظمه كان يتفنن في المدح والتسبيح وذكر أفضال ومحاسن النظام على الشعب.. رسالته وشعاره الأساسي أن كل شيء على أحسن ما يرام، كل شيء بخير، وأن أمور البلاد والعباد رائعة وممتازة. هموم ومشاكل الشارع في اتجاه، وما يُنشر ويُكتب ويُقال شيء آخر لا علاقة له بالواقع.

هذا النوع من الصحافة، يغيب عن أجندته شيء اسمه التغيير أو السلطة الرابعة أو الصحافة الاستقصائية، فنجده يتفنن في القضايا الروتينية والأحداث اليومية؛ من مناسبات وافتتاح مشاريع وحفلات تكريم.. قضايا هامشية بعيدة كل البعد عن هموم وانشغالات الشارع.

عشية الثورات، وصفت صحافة البلاط الشباب الثائر ومئات الآلاف من المتظاهرين، بأنهم مجموعة من قطاع الطرق الطائشين المراهقين، مجموعة تخرب بيوتها بأيديها، مجموعة لا تعرف مصلحتها ومصلحة بلدها. وقد لاحظ المشاهد والقارئ التناقض الصارخ بين ما كان يجري في الشارع وزخم المظاهرات وتقدمة وسائل الإعلام الدولية والفضائيات العالمية، وبين ما كان يقدمه الإعلام الرسمي من تناقض صارخ، وفبركة وتزوير وتضليل واستخفاف بعقول الناس.

في هذه الظروف ظهرت علينا مجموعة من الصحافيين لا ملة لهم ولا مبادئ ولا قيم، همهم الوحيد هو التمسك بالحاكم ولو كان على خطأ، والاستمرار في الخطأ وفي ثقافة تمجيد الرئيس والاستخفاف بعقول الناس. لمَ لا والنظام الإعلامي، إعلام النظام والسلطة، يتفنن في التضليل والتعتيم والفبركة لعقود من الزمن؟

إعلام ما قبل الثورات، إعلام فقد منذ زمن بعيد المصداقية والاحترام من قبل الغالبية العظمى من المجتمع. وبظهور الفضائيات بدأت أركان مملكة صحافة البلاط تهتز وتنهار، ومع انتشار الشبكات الاجتماعية أصبحت هذه الصحافة تلفظ أنفاسها الأخيرة يوما بعد يوم، وبدأت تفقد شيئا فشيئا أسباب وجودها.

باندلاع الثورات وسقوط الأقنعة وهروب الطغاة وتنحيهم من الحكم، انهارت صحافة البلاط وتحولت من التطبيل والزغردة والتسبيح والتمجيد، إلى ركوب الموجة. فالصحافي والإعلامي الذي كان يشكك في الثورة ويصف الشباب المتظاهر بالطائش والمتهور والذي لا يعرف مصلحته ومصلحة البلاد، تحوّل فجأة مائة وثمانين درجة وكأنه شخص آخر، شخص يؤمن بسلطة الشارع وبإرادة الجماهير وحاجة البلاد إلى التغيير ومواكبة التطورات في العالم..

 فسبحان مغير الأحوال. هذا النوع من الصحافيين كأنهم آلات موسيقية، تتم برمجتها حسب المناسبة، على عكس مهنة الصحافة ورسالتها النبيلة في المجتمع، والتي تعنى بالكشف عن التجاوزات والأخطاء والفساد والرشاوى وسلب المال العام وإهداره.

والسؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام، هو كيف يجب التعامل مع هذه النوعية من الصحافيين التي تقوم بتأدية مهامها حسب الطلب، وكأن الصحافي مرتزق لا تهمه المبادئ ولا الأخلاق والالتزام بالحقيقة؟

فالمصالح والمال والنفوذ هي الهدف، والوسيلة لا تهم. هذا النوع من الصحافة والصحافيين ومن المؤسسات الإعلامية، لا يصلح لأن يكون إعلام التغيير وإعلام مرحلة ما بعد الثورات، لأنه ببساطة لا يتوفر على مقومات صحافة التغيير والاستقصاء والبحث عن الحقيقة، صحافة السلطة الرابعة التي تراقب السلطات الأخرى في المجتمع. هذا المجتمع الذي يتطلع الآن إلى تحقيق التنمية الشاملة والعدالة الاجتماعية والمساواة والشفافية والديمقراطية.

إعلاميو وصحافيو المناسبات والبلاط والسلطة والنظام، هم الذين ساهموا في نشر ثقافة الفساد والمحافظة على الوضع الراهن وتمجيده، وعندما بدأت الأنظمة في السقوط، سقط القناع عن أنظمتها الإعلامية الواهية والفارغة، والتي تفتقد إلى أبسط معايير المصداقية والموضوعية والالتزام المهني واحترام القارئ.

هؤلاء الصحافيون صنعوا وعيا جماعيا مزيفا، ورأيا عاما مفبركا بعيدا كل البعد عن الواقع. وبمجرد حدوث مسيرات ومظاهرات حاشدة استمرت لبضعة أسابيع، انهارت الأنظمة التي شيدت شعبيتها على النفاق والكذب والتبجيل المزيف، ولم تنفعها الأبواق المؤجرة وصحافة البلاط وإعلام المدح والتسبيح.

المفروض أن أبواق العهد القديم وعهد ما قبل الثورة تُقصى وتُبعد عن العمل الإعلامي في عهد الثورات الجديد. هذه الأبواق لا مصداقية لها ولا احترام ولا تقدير من قبل الشعب.

ولذلك وحتى لا تُخترق الثورة أو تنحرف عن مسارها، فإنه من الضروري ومن الأهمية بمكان إبعاد كل الانتهازيين والمنافقين، الذين إذا تسللوا إلى العهد الجديد لوّثوه بماضيهم الذي لا يشّرف الرسالة النبيلة للصحافة. هذا النوع من الإعلاميين لا يصلح للتغيير الذي لا يقبل النفاق والفبركة والتعتيم والتضليل، ولا يقبل من أخفى الحقيقة وشتم الأحرار ومن مدح الرئيس في مساء حكمه وشتمه في صبيحة هروبه وتنحيه من السلطة.

إعلام المرحلة الجديدة بحاجة إلى إعلاميين مهنيين لهم رسالة واضحة المعالم، ولهم أهداف محددة من أجل نشر ثقافة المجتمع المدني وثقافة المسؤولية الاجتماعية والحكم الراشد. إعلام همه الوحيد هو الكشف عن التجاوزات والفساد وإهدار المال العام.

إعلام يحترم مطالب واحتياجات الشباب الذي خرج إلى الشوارع في مظاهرات يطالب من خلالها بحقه في العيش الكريم، وفي الأمن والأمان والاستقرار والعدالة الاجتماعية. المهمة ليست سهلة وتتطلب موقفا صارما من قبل السلطة وصانع القرار، الذي يجب أن يؤمن بالصراحة والشفافية والديمقراطية وبأن رسالة الإعلام هي المراقبة والاستقصاء والكشف عن الأخطاء والتجاوزات، وليست المدح والتطبيل والزغردة.

إن التغيير يتطلب التغيير في الذهنيات وفي الأفكار وفي أساليب العمل، وفي أشياء كثيرة جدا من أهمها قبول الرأي والرأي الآخر، والنقد والنقد الذاتي، والشفافية والديمقراطية، وإشراك الجماهير في تقرير مصيرها.

 

Email