الجمهورية الثانية في مصر

ت + ت - الحجم الطبيعي

من المنصف أن ينظر المراقب إلى الانتخابات الرئاسية المصرية بتقدير كبير، باعتبارها مفصلاً تاريخيا. فهذه هي المرة الأولى التي يصل فيها رئيس مدني لمصر بالاقتراع المباشر من الشعب، منذ أكثر من 60 عاماً.

شيء من التقدير أيضا يمكن أن يسجل للقضاء المصري، ولخطوات ستبقى رغم رمزيتها موضع تقدير؛ انتقال الحرس الجمهوري فور إعلان النتيجة إلى منزل الرئيس المنتخب، اللفتات الرمزية من الدكتور محمد مرسي نفسه. فالتنازل عن راتب الرئيس، وإصراره على تخفيف الحراسة حوله، وأداء صلاة الفجر دون حراس، ولقاءاته الأولى بالقادة الروحيين المسلمين والمسيحيين وقادة الشرطة وأسر الشهداء، كلها لفتات رمزية إيجابية.

لكن بناء جمهورية ثانية وترسيخ الديمقراطية في بلد عريق مثل مصر، قد يتطلب ما هو أكثر من اللفتات الرمزية. فهذه الانتخابات تمثل دون أدنى ريب تحولاً تاريخياً في مصر والبلدان العربية، وستترك تأثيراً سيستمر لعقود قادمة، بطريقة يميل الكثيرون ـ في الحقيقة شواهد عديدة أيضا ـ إلى مقارنتها بالتأثير الذي أحدثه انقلاب الضباط الأحرار عام 1952. بالتأكيد لن يكون مثل هذا التأثير بنفس المسارات والزخم.

أما أن يكون هذا الرئيس المدني المنتخب من تنظيم الإخوان المسلمين، فإن هذا لا يغير كثيرا في المهمات التي يفرضها هذا التحول الذي صنعته ثورة جماهيرية كبرى. هنا بالضبط، تتضح أولى ملامح التغيير الكبير، الذي أوصل رئيساً مدنياً منتخبا إلى السلطة في مصر.

فهذا الانتقال التاريخي ليس انقلابا عسكرياً مثلما كان عليه الحال في 23 يوليو 1952، وليس انتقالاً قاهراً للسلطة مثلما حدث مع اغتيال الرئيس السادات عام 1981، بل ثمرة ثورة جماهيرية شارك فيها الملايين من الشعب المصري في كل مراحلها، سواء أولئك الذين نزلوا إلى الشوارع والميادين، أو أولئك الذين شاركوا في التغيير عبر صناديق الاقتراع.

يفرض هذا على الرئيس والتيار الذي يعبر عنه، وعلى مؤسسة الجيش أيضاً، إدراك حقيقة مهمة فرضت نفسها، وهي أن المصريين لم يعودوا رقماً مهملاً، أو كماً مغلوباً على أمره. فإذا كانت ثورة 25 يناير قد أثمرت تحولات كبرى، فإن أول هذه التحولات هو أن المصريين أصبحوا اليوم في موقع يستطيعون فيه فرض إرادتهم على القوى التي تمسك بمفاصل السلطة.

وهذا التعبير لن يعني بأي حال، آلافاً من المصريين ممن يتوافدون إلى الشوارع والميادين للتعبير عن إرادتهم فحسب، بل طبقات كاملة تضم البسطاء؛ من رجل الشارع وربة البيت إلى فئات عريضة من المثقفين والمستنيرين والمفكرين.

أي، مصريون من مختلف الشرائح الاجتماعية والمستويات الثقافية والعلمية والفكرية، باتوا يمثلون طبقة اجتماعية/ سياسية أصبحت متماسكة ومتراصة حول هدف واحد هو التغيير. وإذا كان لمنطق الأرقام من أهمية هنا، فلن نتردد في القول إنهم ملايين، هذا ما عبرت عنه صناديق الاقتراع على الأقل.

لا شك أن المهمات المطروحة أمام الرئيس المصري المنتخب محمد مرسي، كبيرة وصعبة، ولعل انتماءه إلى تنظيم الإخوان المسلمين يزيد من صعوبة هذه المهمات، نظراً للمساحة الكبيرة من الشكوك التي ما زالت تفصل "الإخوان" عن بقية المصريين والعرب. الشكوك التي تحوم، مهما تعددت وتنوعت تفاصيلها، حول معضلة أساسية نواجهها جميعا منذ عقود طويلة: "هل نبني دولة مدنية أم دولة دينية؟"

يزيد في صعوبة هذه المهمة، أن خصوم الإخوان أيضا لا يمكنهم الدفاع بقوة عن نموذج الدولة المدنية المصرية، لأنه كان نموذجا بلغ به الفشل حدا دفع المصريين للثورة. لكن ثمة عاملا مستجدا هنا قد يجمع كلا من الإخوان وخصومهم، وهو اتفاق لم يتبلور بعد (أو إنه آخذ في التبلور) على فشل نماذج الدولة الدينية، والحاجة لبناء دولة مدنية قائمة على الديمقراطية.

في هذه المساحة، هناك لقاء مفترض بين المصريين بمختلف انتماءاتهم وانحيازاتهم الصغيرة والكبيرة وخياراتهم السياسية، لكن هذا هو ما سيشكل مادة وموضوعاً للجدل أيضا، حول الأشكال والوسائل التي يمكن بها الوصول إلى هذا الهدف.

أكثر ما سيظهر هذا الجدل، هو مداولات اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، وستجد شيئا من انعكاساتها في الشارع وبشكل غير سوي أحيانا، عبر إفراط في العنف وأشكال من التآمر والدسائس السياسية.

من السهل وضع جملة من المهمات أمام أول رئيس مدني منتخب في مصر، إلا أنني أزعم ان ترسيخ الديمقراطية سيبقى هو الأهم. فالأهداف الكبرى للثورة المصرية التي تتمحور في غالبها حول "العدالة الاجتماعية"، تتطلب أدوات فاعلة لتنفيذها، وإيمانا حقيقياً بها لدى جميع المصريين لا توفره إلا الديمقراطية.

لكن الديمقراطية ليست ذهاباً متكرراً لصناديق الاقتراع، وليست حسابا للأصوات بين أغلبية وأقلية فحسب، بل هي جملة من القيم العليا، مثل احترام الحريات العامة والفردية، الرقابة، الشفافية، المحاسبة، العدالة والاحتكام لصناديق الاقتراع.

لن يلمس الأفراد أي قيمة لهذه الممارسات في ظل أجهزة دولة بطيئة وقليلة الفعالية، أو في ظل فساد هنا أو هناك، أو من قبل مؤسسات وأجهزة اعتادت طويلاً على إنكار هذه القيم وعدم تمثلها، لصالح قيم وممارسات دعت ملايين المصريين للثورة عليها.

لذلك فإن الوصول إلى ديمقراطية فاعلة، يتطلب أيضا تحديثا وتطويرا في مؤسسات الدولة، يجعلها قادرة على بناء وترسيخ ديمقراطية حقيقية، تكون هي موضع إجماع الشعب، وأعتقد أيضا أن هذا هو ما يتعين أن يكون عليه إجماع المصريين.

هذا هو جزء المهمة الأصعب، وهذه مهمة ليست مطروحة أمام رئيس ينتمي إلى تيار الإخوان المسلمين فحسب، بل إنها ستبقى مطروحة أمام أي رئيس مصري آخر من أي تيار.

 

Email