منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد في العام 1979 والعسكرية المصرية ترتبط ارتباطا وثيقا بنظيرتها الأميركية، تمويلا وتسليحا، وليس سرا ان الاستثمارات الأميركية «باللغة البرجماتية الوحيدة التي تجيدها واشنطن»، في مصر ومؤسستها العسكرية قد جاوزت الخمسين مليار دولار.
ولم تذهب في واقع الحال هباء منثورا، إذا كانت مصر في عهد مبارك تحديدا داعما وسندا للعسكرية الأميركية بدءا من أفغانستان، وصولا إلى العراق، مرورا بالأدوار الخفية التي تجلت في محاربة الإرهاب العالمي بالمنظور الأميركي... هل من معنى أو مغزى لما تقدم؟
نعم، وباختصار غير مخل هو ان هناك زواج شبه كاثوليكي بين المؤسستين، وعليه يبقى من المستغرب تلك الهجمة الأميركية الأخيرة على المؤسسة العسكرية المصرية وجنرالاتها، ما يستدعي علامة الاستفهام: لماذا وما الهدف؟ وهل غيرت واشنطن نظرتها لهذا التحالف الأوثق والألصق؟
بدايات الصدام العلني تجلت اثر إصدار المجلس العسكري الإعلان الدستوري المكمل ثم إعلان تشكيل مجلس الدفاع الوطني. هنا كانت وزيرة الخارجية الأميركية تدعو الجيش المصري لان يفي بالوعد الذي قطعه للشعب المصري بتسليم السلطة معتبرة ان الإعلان الدستوري المكمل الذي أصدره العسكري مزعج، وطالبت الجيش بعدم التدخل أو محاولة إفساد السلطة الدستورية،.
وذكرت ان: «العسكريين الذين يحكمون مصر لم يكفوا عن قول شيء في العلن ثم يتراجعون عنه في الخفاء بطريقة ما». ماذا تريد واشنطن الآن من المؤسسة العسكرية المصرية؟ عبر لقاء جرى في استوديوهات BBC مؤخرا في بريطانيا تناقش فيه محللون استراتيجيون من انجلترا ولبنان وسوريا، حول هذه المعضلة خلصوا إلى أن الجيش المصري هو العقبة الوحيدة التي تقف في وجه المشروع الأميركي للشرق الأوسط الجديد لأنه ذو قدرات هائلة عدة وعتادا ويعد العاشر على مستوى العالم.. لماذا وكيف هو عقبة؟
ربما يلزم هنا التذكير بأن فكرة الشرق الأوسط الكبير أو الجديد لم تغب عن واضعي الاستراتيجيات الأميركية، وأحاديث الفوضى الخلاقة لصاحبتها كونداليزا رايس لاتزال تجد طريقها، ولهذا فقد كان ولابد من تفكيك المشهد الدولي العربي الشرق أوسطي على النحو الذي نراه، وفي المقدمة منذ ذلك تأتي المؤسسات العسكرية.. هل الحال يغني عن السؤال؟
انظر واحكم، كان قرار أول حاكم أميركي للعراق «بول بريمر» هو حل الجيش العراقي، ثم جاء الدور على ليبيا فسلح الناتو بزخم أميركي خفي المعارضة، ليضحى الجيش الليبي أثرا بعد عين، أما عن الجيش السوري فالانقسامات بدأت تدب فيه، ولا ينتظر له الخير الوفير.. هل هو إذن الدور على الجيش المصري حتى تبقى الساحة الشرق أوسطية نهبا لإسرائيل؟
هناك في واقع الحال قراءات كثيرة تفسر ما هو جار، وفي مقدمتها حتمية فهم الاستراتيجية الأميركية الجديدة في العقود المقبلة، وتتلخص في اعتبارها ان التحدي الحقيقي، والصراع القطبي ينتظرها هناك شرقا جهة المحيط الهادئ، وفي مواجهة الصين، القطب المناوئ والمهدد للأحادية الكونية الأميركية. وعليه كان لابد من بحث عن وكلاء جدد في الشرق الأوسط للقيام بدور الحكومات والتي إن لم تكن الحليفة بالمطلق فالتي تسير الأمور على الأقل.. هل أشار احدهم إلى ذلك منذ عدة سنوات؟
نعم ذلك كذلك، ففي أطروحته الشهيرة عبر مجلة «الفورين افيرز» الأميركية الشهيرة تحدث ريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأميركية عن زوال العصر الرابع للحضور الأميركي شرق أوسطيا، وبمعنى أدق عدم أهمية البقاء عسكريا ولوجستيا في الشرق الأوسط طالما هناك من له وكالة فيها.
في تلك الورقة ذهب هاس إلى ان الإسلام السياسي سيسد الفراغ الثقافي الذي نشأ في العالم العربي على نحو مضطرد، والذي سيشكل مؤسسة لسياسات غالبية سكان المنطقة، فالقومية العربية والاشتراكية العربية أصبحا من الماضي، والديمقراطية تنتمي إلى المستقبل المنظور في أفضل الأحوال، حيث باتت الوحدة العربية شعارا وليست واقعا...
هل يفهم من هذه الرؤية لماذا أقدمت واشنطن منذ 2004 على استقبال رموز معارضة عربية لاسيما أصحاب المشروعات ذات الملمح الديني الثيوقراطي للحكم من مختلف الدول العربية الشرق أوسطية تحديدا؟
ماذا يهم واشنطن من مصر؟ العهدة على الراوي هنري كسينجر ثعلب السياسة الأميركية: «السلام مع إسرائيل، وتأمين الملاحة في قناة السويس من اجل مرور النفط والبحرية الأميركية العسكرية المتوجهة شرقا، وبقاء الجيش المصري تسليحا وعقيدة في الفلك الأميركي... أضف إلى ذلك اعتقاده التام ان «الإخوان المسلمين سيكون لهم الدور السياسي القادم في مصر»،.. هكذا تحدث في اسطنبول مؤخرا لوزير الخارجية المصري السابق محمد العرابي..
هل يفسر ذلك سر الزيارات السرية والعلنية لأعضاء من جماعة الإخوان إلى واشنطن، الأمر الذي دعا عددا من أعضاء الكونجرس لطلب فتح تحقيق رسمي حول ما يجري في واشنطن بين الإخوان وإدارة اوباما؟ من يدعم ويساند عسكر مصر في مواجهة ساسة أميركا؟ الشعب المصري وحده الذي رفع غداة 28 يناير 2011 شعارا عبقريا «الجيش والشعب ايد واحدة».