عرفات.. لماذا كرهه الجميع؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

بالنسبة للإسرائيليين، هو "أكثر شخصية فلسطينية بغيضة وراعي الإرهاب الأول". وللأميركيين هو "شخص منبوذ"، وبالنسبة لبعض العرب فهو "خائن" وما إلى ذلك من نعوت في قاموس الهجاء العربي. لكن لم يتوقف أحد حتى اليوم ليفسر سر هذا الإجماع على كراهية عرفات بين الإسرائيليين والأميركيين والعرب؟

سؤال طرحته - ولربما غيري أيضا- أكثر من مرة على مدى سنوات، لكن حتى اليوم ومع عودة الحديث عن موت الرجل، لا جواب ولا حتى محاولة للفهم أو إعادة النظر، بل عودة للحديث بنفس طابع الهذيان الذي ظل الجميع، وخصوصا العرب، يتحدثون فيه عن عرفات لعقود طوال. هذا الإجماع بين الإسرائيليين والأميركيين والعرب على كراهية الرجل، وهذا الهذيان المستمر حول عرفات، ليس مقلقا فحسب، بل إنه مخيف.

تثير الصور المتداولة عن عرفات في مخيلة العرب، تساؤلات عميقة عن قدرة الجمهور بشكل عام والقادة وفئات المثقفين، على الحكم لا على شخصيات مثل عرفات، بل عما إذا كانت هذه الشرائح تملك أي نوع من المناعة حيال أهم أدوات الصراع السياسي في التاريخ، "الدعاية".

تحية لـ"بول جوزيف غوبلز"..! فعبقريته تتجلى يوما بعد آخر أمام هذا الإجماع في العالم كله، على استلهام مبادئه التي أرساها في الدعاية.

وفي ما يخص عرفات، فلقد أصدر عميل الموساد السابق فكتور أوستروفسكي، كتابه الشهير "الموساد من الداخل" عام 1990، وفيه تحدث بوضوح شديد عن "دائرة الحرب النفسية" في الموساد، التي كانت وراء الإشاعات التي أطلقت على عرفات؛ "شاذ" وما إلى ذلك..

وكل تلك القصص حول ثروته التي تصل إلى الملايين. قصص زرعها الموساد في الصحافة الغربية، وتلقفها العرب بكل سذاجة، بل غباء، وردودها بنفس آلية مبدأ غوبلز الشهير حول تكرار الكذبة حتى تصبح حقيقة.

لكن أوستروفسكي ملك من الشجاعة ما دفعه للقول إن عميلاً للموساد من المحيطين بعرفات، لم يستطع أن يثبت شيئا يعزز إشاعة الموساد حول الشذوذ (لأن الموساد مخلصون لنظرية غوبلز في الكذب، التي تشدد على قول ربع الحقيقة على الأقل لتمرير الكذبة).

لم يعثر العميل القريب من عرفات على أي شيء يدعم الإشاعة، لكن الموساد أطلقها على أي حال ونفخ فيها، وكانت النتيجة واضحة.

لكن حتى عامنا هذا 2012، ما زلت أسمع وأقرأ وأرى قصصا تفوق تلك التي أطلقها الموساد على الرجل، يرددها لا السذج ولا الصغار فحسب، بل مثقفون وحملة شهادات عليا ونجوم فضائيات، من محللين وكتاب ومواقع على الانترنت.

قصص يعاد إنتاجها من وقت لآخر عن الرجل، حتى ليبدو أن 45 عاما من التاريخ قضاها ياسر عرفات قائدا لشعبه، مختزلة بشكل مهين للذكاء والعقل في قصص تصلح لمجالس النميمة.

هل مات عرفات مسموماً؟ وكأنما نحتاج لبراهين إضافية على أن الإسرائيليين لن يوفروا وسيلة لقتل الرجل، وهم الذين حاولوا أكثر من مرة؛ القنبلة الفراغية أثناء اجتياح لبنان عام 1982، والغارة على مقره في حمام الشط في تونس عام 1985، واجتياح جنين عام 2002.

لا يحتاج المرء في صراع ضار مثل صراع الفلسطينيين ضد إسرائيل، إلى أي وسيلة سوى غريزة الشك العقلية، للتأكد من أن كل ما رافق موت عرفات من تدهور مفاجئ في صحته، والتكتم الذي أحيط بفترة علاجه وأسباب الوفاة، تعطي مؤشرات كافية لموت غير طبيعي.

أبعد من هذا، وفي الطبعة المحدثة من كتابه "جواسيس جدعون" والصادرة عام 2008، أضاف البريطاني جوردن توماس المتخصص في تاريخ الموساد، فصلا جديدا للطبعة الأولى من الكتاب الذي صدر عام 2001، خصصه لاغتيال عرفات.

وحسب توماس فإن الموساد دس السم لعرفات في طعامه، بعد أن عرفوا أن من الأكلات المحببة له حساء يصنع من عشبة تنمو في فلسطين. وحسب توماس، فإن الإسرائيليين توصلوا إلى تاجر من عرب 1948، كان يزود مقر الرئاسة (المقاطعة) بهذه العشبة، فقاموا بدس السم في شحنة مرسلة إلى مقر عرفات. ويؤكد توماس أن معلوماته مستقاة من الموساد نفسه، كما أن هذه الرواية لم ينفها أي مسؤول إسرائيلي. تبدو هذه أيضا غير كافية لإقناع المتجادلين اليوم، بأن الإسرائيليين قتلوا عرفات.

يجر الحديث عن موت الرجل، أيضا، إلى تلك القصص المسلية عن ثروته الطائلة، تلك القصص التي أنتجها الموساد وزرعها في الصحافة العالمية، فتلقفتها الصحافة العربية. لهؤلاء، يمكن التذكير ببعض الوسائل التي تم فيها إنفاق أموال المنظمة في العقود الماضية.

فلقد بنت هذه الأموال جامعات ومستشفيات ومرافق أخرى في الأراضي المحتلة، ومنها تم الصرف على مئات الكوادر من الخريجين من أطباء ومهندسين وغيرهم، للبقاء في الأرض المحتلة، بدلا من الهجرة وإفراغ الأرض. إن إبقاء شعب في أرضه، في ظل الاحتلال الإسرائيلي ومخططات التهجير والاقتلاع، كان مهمة تتطلب توظيف الملايين أيضا، وليس القتال والتظاهر فحسب.

نعم، كان عرفات يدير هذه الأموال، لكن عندما رحل فإنه لم يكن يملك بيتاً ولا ميراثاً أكثر من البدلتين العسكريتين والكوفية التي كان يرتديها، أما أموال المنظمة فهي تحت إدارة خمسة من رجال منظمة التحرير الفلسطينية.

لقد اتخذ الإسرائيليون قرار تصفية عرفات عندما بادر بتشكيل "كتائب الأقصى"، فهذا كان بالنسبة لهم "الكابوس" القديم لقوة النضال الفلسطيني، أي أن يترافق "النضال المسلح" مع النضال السياسي، مثلما كان عليه الحال منذ انطلاقة الثورة. لكن هذه المرة فإن الكابوس كان على أرض فلسطين، لهذا كان الرد مضخماً واستباقياً وعلى مدى بعيد؛ التفتوا عن حماس للتفرغ لضرب عرفات والسلطة، عبر اجتياح جنين عام 2002. وعندما أكملوا المهمة وعزلوا عرفات وضربوا السلطة، تفرغوا لحماس.

الدرس الذي لم يستوعبه كثيرون، بمن فيهم قادة حماس، هو أن لدى الإسرائيليين هدفا يتجاوز التنظيمات الفلسطينية كلها: ضرب مقومات دولة فلسطينية محتملة، أياً كان رئيسها وأياً كان الذي يديرها.

Email