بؤس الحقيقة في زمن الحروب والأزمات

ت + ت - الحجم الطبيعي

ما يجري هذه الأيام من متابعة وتغطية إعلامية للأحداث في سوريا، وما جرى في دول الربيع العربي، يثير العديد من التساؤلات حول موضوعية الأخبار والأرقام والمعطيات التي تتداولها وتبثها وسائل الإعلام المختلفة، إلى القراء والمشاهدين والمستمعين في مختلف أنحاء العالم.

"في وقت الحرب تكون الحقيقة ثمينة جدا، الأمر الذي يتطلب حمايتها بحرس شخصي من الأكاذيب".. هذه مقولة مشهورة للسياسي البريطاني المحنك ونستون تشرشل، ويقال كذلك إن الحرب أولها كلام. ويستوقفنا التاريخ عند نابليون بونابرت، حين دخل مصر غازيا وأحضر معه من باريس مطابع لإصدار صحيفة يكمّل من خلالها عمله الاستعماري، ويسيطر عبرها على الأفكار والعقول، ويمارس الحرب النفسية والدعاية والتضليل والتعتيم.

ففي أوقات الحروب، تتداخل خيوط الإعلام مع الدعاية ومع الحرب النفسية، والحرب بدون إعلام ليست حربا. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذه الإشكالية، إشكالية الحرب والإعلام، هو: أي إعلام يتلقاه المشاهد أو القارئ أو المستمع حول ما يجري في سوريا هذه الأيام؟ وهل من موضوعية وحرية في نقل أحداث ووقائع الأزمة؟ وهل من استقلالية في معالجة القضايا والمسائل التي تحيط بالصراع القائم هناك؟

في هذه الأيام يجد المتلقي نفسه أمام سيل من الأخبار والمعلومات، المحشوة بالتناقضات وتضارب الأخبار والمعلومات والإحصائيات والمعطيات. فالحرب النفسية تفرض نفسها على منطق الموضوعية والحياد، ويصبح كل طرف متورط في الحرب، يعمل جاهدا لكشف ما يخدمه ويخدم قوته وتفوقه في الحرب، من أجل رفع معنويات الجيش والشعب وكل من يتعاطف معه، وضرب معنويات الخصم. من جهة أخرى، نلاحظ أن الطرف الآخر في الحرب يخفي خسائره وضحاياه، ويركز على النجاح والنتائج التي حققها.

بطبيعة الحال، ما دام أن الحرب خداع فإن كل شيء مباح للنيل من العدو، ولو تطلب ذلك الكذب وممارسة الحرب النفسية والدعاية والتضليل والتعتيم. فتتضارب الأرقام والمعلومات والأخبار، وحتى عملية التأكد والتدقيق في ما تقدمه المؤتمرات والبيانات والإيجازات الصحفية، تبقى صعبة وليست بالأمر السهل.

أثناء حرب الخليج الثانية سنة 1991، تحكّم البنتاغون في التغطية الإعلامية للحرب كما شاء، ووفق ميكانيزمات محكمة سمحت له باختيار وانتقاء الأخبار والأحداث والوقائع التي تخدم وجهة نظر وأهداف الولايات المتحدة الأميركية. البنتاغون استعمل ما يسمى بالمجمعات الصحفية، واتخذ من قناة سي.أن.أن "الناطق الرسمي له"، وبذلك لم تتحكم أميركا في العمليات العسكرية فقط، وإنما تحكمت في الصورة وفي أحداث ووقائع الحرب.

هكذا إذن في الأزمات تختفي مبادئ كثيرة، فالصحافي في زمن الحرب مقيّد بالمسؤول العسكري الذي يوجهه إلى المناطق التي يريدها، وقد يتدخل حتى في الرسائل التي يرسلها إلى مؤسسته الإعلامية.

فحرب الخليج الثانية كانت حربا على مستوى العقول والأفكار والرأي العام، قبل أن تكون حربا في الميدان.

للتذكير فقط؛ يعمل في الجهاز الحكومي الأميركي أكثر من 9000 إعلامي، وهناك أكثر من 1500 رجل إعلام وعلاقات عامة في البنتاغون. فالآلة الإعلامية الأميركية اشتغلت منذ زمان، لكسب الرأي العام الأميركي أولا ثم العالمي ثانيا.

الرهان هذه المرة صعب، حيث إن الآلة الإعلامية الأميركية لم تفلح في عملياتها التضليلية والدعائية، وفي كل مرة نلاحظ آلاف الأميركيين يتظاهرون في مختلف مدن الولايات المتحدة، منددين بالحرب وعدم جدواها، ومؤكدين إمكانية تجنبها بطرق سلمية ودبلوماسية. ومع كل هذا نلاحظ إصرار صقور البيت الأبيض وتجار الحروب والأسلحة، على مواصلة سعيهم لتنفيذ خطط السيطرة والهيمنة على النفط العراقي وعلى المواقع الاستراتيجية في المنطقة.

 وهنا نلاحظ تواطؤ الكثير من المؤسسات الإعلامية العالمية، في تهيئة الأجواء لرأس المال العالمي ولليمين المسيحي المتطرف والصهيونية العالمية، لبسط النفوذ والسيطرة على الثروات والمناطق الاستراتيجية في العالم، رغم أنف ملايين البشر والرأي العام العالمي.

كان أكثر من 500 صحافي يتعاملون مع البنتاغون في تغطية الحرب الأميركية في العراق، والتعاون مع البنتاغون يعني الرضوخ والقبول بالشروط المفروضة والقوانين "الدبلوماسية"، التي يحددها مسبقا للتحكم في كل ما يكتب وما يبث عن الحرب.

إن الصراع قائم دائما بين الإعلام والدعاية والحرب النفسية والتضليل والتعتيم والتلاعب بالعقول، في زمن الحروب والأزمات، وإن أساطير الحرية والموضوعية والنزاهة والالتزام بالحقيقة والحياد وعدم الانحياز، ما هي إلا شعارات لا وجود لها على أرض الواقع، حين تشتد الحاجة إليها، وتبقى الحقيقة بائسة ومفقودة وهي الضحية الأولى للحروب والأزمات والصراعات.

Email