كنت كتبت عن هذا الموضوع منذ عدة سنوات عندما لمست بذوره آنذاك، ورأيت أن أعود له اليوم مجددا بعدما كثر الحديث عنه في الآونة الأخيرة، وخصوصا في النقاشات المتداولة على شبكات التواصل الاجتماعي، وذلك بعدما جاء أكثر من شخص، سواء باسمه الصريح أو بأسماء مستعارة، بآراء وعبارات أثارت الهيجان الشعبي، لاعتبارها إلحادية أو كفرية، وتطورت في بعض الحالات إلى إلقاء القبض على من كتبوها.
وسأبدأ قائلا بشكل مباشر، إن من الضروري أن نعترف اليوم بأن (الإلحاد) موجود ويتزايد في مجتمعنا، وبالأخص في أوساط شبابنا، وقد أضحت الشواهد على ذلك كثيرة، سواء من خلال الكتابات على شبكة الانترنت في المنتديات والمدونات وشبكات التواصل الاجتماعي، أو من خلال كتابات صحافية متفرقة تأتي على استحياء، أو حتى من خلال من يعبرون عن أفكارهم الإلحادية شفاهة، بشكل مباشر أو غير مباشر، في هذا المحفل والمجلس أو ذاك.
وسـأتوقف للحظة هنا، موضحا بأني لا أسعى من خلال هذا المقال إلى وضع أي أحد ممن اتهموا بالإلحاد، على منصة الاتهام بأي شكل من الأشكال، أو الدفع نحو محاسبتهم من خلال القضاء أو غيره، أو حتى إلى مجرد الدخول في دائرة القول بكفرهم أو أنهم سيكونون حطبا لجهنم مثلا، فكل هذا لا يعنيني في هذا المقام، بل لعلي لا أراه السبيل الأصوب للتعامل مع الأمر. كما أنه لا بد من التنوية إلى فكرة أني حين أصف هذه المجموعة بالإلحاد، فأنا لا أشتمهم أو أوجه لهم السباب، وإنما حسبي أن سميت الأشياء بأسمائها العلمية المتعارف عليها، فإنكار وجود الذات والقدرة الإلهية يسمى في الاصطلاح العلمي: إلحاداً.
إشعال جذوة التفكير في هذه الظاهرة المتزايدة، هو ما يهمني من إثارة الموضوع اليوم، حتى وإن اختلفنا مع بعضنا البعض في تقدير حجمها، فقد أؤمن شخصيا بأنها منتشرة، وكنت أقول بهذا منذ سنوات، وقد يرى غيري أنها ليست كذلك وأن ما نراه ليس سوى حالات شاذة قليلة. لكن، على الأقل، دعونا لا نختلف على حقيقة وجودها في مجتمعاتنا اليوم، وأنها مرشحة للتزايد، كأي ظاهرة مجتمعية أخرى، وذلك كي يتسنى لنا أن نتناقش حولها.
والسؤال الذي أود طرحه هو: لماذا وكيف يتزايد الإلحاد في أوساط مجتمعات لا تفتأ تكرر وصف نفسها بالمجتمعات المتدينة؟ والتي هي ذاتها المجتمعات التي تنشط فيها الجماعات واللجان والمحاضرات والأنشطة الدينية، أكثر مما سواها من الأنشطة الأخرى بشكل واضح، بل صاخب في كثير من الأحيان. هل هناك خلل في هذه المسيرة الدينية الدعوية مثلا، ولهذا فبدلا من أن يتزايد التدين، إذا ببذور الإلحاد تنبت من بين ظهرانينا فتكبر وتتنامى؟
الموضوع حي ومهم، وهو أكثر أهمية من موضوعات دينية ـ إعلامية أخرى يحلو للبعض طرحها بأسلوب مثير بين فينة وأخرى، ولذلك فهو جدير بتأجيج عشرات الأسئلة الملحة التي تستلزم الإجابات الصريحة المباشرة. وسيكون من المزعج حقا، بل من المؤلم جدا، أن يخرج من بيننا من يرغب في التصدي لهذا الأمر بأسلوب القمع والتنكيل، فذلك لن يقود إلى أي نتيجة إيجابية، بل سيزيد من تعقيد الموضوع وانتشاره.
إن من الضروري اليوم أن يدرس موضوع الإلحاد في مجتمعاتنا، ويتفكر فيه ويتعامل معه بشكل موضوعي صحيح، وذلك من قبل المتخصصين الأكاديميين ـ لا العامة ـ حتى يمكن الوصول إلى نتائج ذات دلالات وقيمة علمية، للأسباب الكامنة وراء انتشاره وتناميه بهذا الشكل المتزايد، في مقابل ما كنا نظنه انتشارا للصحوة الدينية.
إنكار أهمية المسألة برمتها من جانب، أو محاولة التصدي لها بقسوة من الجانب الآخر، لن يعالجها، بل سيؤدي إما إلى تخفيها واتخاذها أشكالا مقنَّعة، أو إلى ردات فعل شاذة، والتي منها اليوم على سبيل المثال، ظهور العشرات من مواقع الإنترنت وحسابات شبكات التواصل الاجتماعي، التي تسب الدين وتتطاول على الذات الإلهية والمعتقدات والرموز الدينية بشكل استفزازي تجريحي مباشر، على الرغم من أننا نعرف أن الفكرة الإلحادية، وفي صميم فلسفتها المعروفة، تميل إلى أن تكون ممارسة فردية، لا دعوة تبشيرية جماعية أو فكرة تقتضي أن تتنافس مع غيرها علناً.