هادي بين قوة المشروعية ومشروعية القوة

ت + ت - الحجم الطبيعي

كلما تقدم الزمان وتوالت الأيام وتطورت ثورة المعلومات واتسع نطاق انتشار تقنيات الاتصال الهائلة على مستوى العالم، تعززت قيمة الإنسان وترسخت عوامل قوته كصاحب إرادة قادر على فرض تصوراته واستعادة حقوقه واستنهاض همته، وبذلك بدأ يصبح رقما حقيقيا وصعبا يعمل له ألف حساب.

وفي منطقتنا العربية مع انبلاج شمس القرن الواحد والعشرين، بدأ الإنسان العربي يصبح شيئا مذكورا في نظر حكامه الذين استمرأوا الفساد والاستبداد لقرون خلت، وجاءت ثورات الربيع العربي لتعيد صياغة مفهوم القوة في هذه المنطقة، وتعيد تموضع مفهوم المشروعية في مكانه الصحيح، فالقوة الحقيقية تكمن في إرادة الإنسان، والمشروعية الحقيقية هي للشعب الذي يملك السيادة.

وهذا التحول الهائل يمثل المكسب الحقيقي من ثورات الربيع العربي، وتبدو آثاره ملموسة سواء في الدول التي حدثت فيها هذه الثورات أو الدول التي لم تحدث فيها. ويمكن القول: إن المنطقة العربية خطت الخطوة الأولى للحاق بالغرب في تعزيز هذا المفهوم الإنساني العظيم، فالغرب لم يستقر ولم يزدهر ولم ينهض إلا بترسيخ قيم الديمقراطية ومفاهيم حقوق الإنسان واحترام سيادة القانون.

وهذا ما يجعلنا نتفاءل، رغم حالة الإحباط واليأس الشديد لدى مواطننا العربي. فالتغيير يبدأ باقتلاع الاستبداد والحكم الفردي، وتحويل المستبد إلى "جرذ" يخاف ظله، فكيف بالرعب الذي يزلزل كيانه من المواطن العادي الذي خرج إلى الشارع ينشد الحرية المفقودة ويطلب الكرامة المسلوبة ويتطلع إلى الحياة الكريمة ولو كانت في القوت الضروري؟

وبغض النظر عن سرعة التغيير إلى الأفضل الذي يتطلع إليه المواطن في اليمن وتونس ومصر وليبيا، فإن عليه أن يدرك أن حكامه الجدد لم يعودوا يستمدون قوتهم مما يمتلكونه من دبابات وطائرات حربية وسائر أنواع الأسلحة، بل يستمدونها منه هو كمواطن أعطاهم المشروعية.

ولذلك عليه أن يظل يقظا رقيبا، وفي الوقت ذاته يعطي قادته الجدد فرصتهم الكاملة للإصلاح والتغيير، وهي بالتأكيد لن تمتد لعقود كتلك التي عاشها في ظل حكم الفساد والاستبداد.

وهاهم جنرالات تونس الأقوياء يحتمون اليوم بالائتلاف الديمقراطي الجديد، وليس بدباباتهم.. وهاهم جنرالات مصر لم يستطيعوا أن يحولوا دون تغيير قائدهم المعتق طنطاوي، على يد رئيس أعزل تكمن قوته في استناده إلى مواطنه الذي منحه المشروعية.

ورغم اختلاف سيناريو التغيير في اليمن عن مصر وتونس شكلاً، فإنه من حيث الجوهر يكاد يتطابق، فتدخل الجيش في تونس سهل خروج بن علي من المعادلة، وجرى ما يشبه اتفاق الجنتلمان بين قادة الجيش وقوى التغيير، بمعنى أنه حدث نوع من أنواع التوافق السياسي أوصل الثورة إلى بر الأمان.

وكان تدخل الجيش في مصر حاسما هو الآخر في اتجاه الانتصار للثورة وللتغيير، وحدث كذلك ما يشبه التوافق السياسي الذي أوصل الثورة إلى بر الأمان.

الأمر نفسه في اليمن، وبالتأكيد كان لانشقاق الجيش دوره الأساسي في التوجه المبكر نحو الخيار السلمي في التغيير، وهو الأمر الذي استكمله الخارج ممثلا في دول الخليج والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الرئيسية، بدعم كبير من الأمم المتحدة ومجلس الأمن.

فلو لم يعلن اللواء علي محسن تأييده للثورة الشعبية الشبابية السلمية، ومعه عدد غير قليل من كبار قادة الجيش، لاتخذت الثورة مسارا آخر لم يكن العنف ليكون بعيدا عنه، بل ربما كان الخيار الأقرب.

في تلك اللحظات اليمنية الفارقة، أصبح معلوماً لدى الجميع أن مفهوم المشروعية قد تغير، لأن صالح قد خسرها ـخاصة عقب مذبحة جمعة الكرامةـ وانتقلت إلى الشارع الذي يمتلك السيادة بنص الدستور.

كما أن مفهوم القوة قد تغير، فرغم القوة الضاربة التي يمتلكها صالح في قوات الحرس الجمهوري، إلا أن القوة الحقيقية انتقلت للشارع الأعزل، فما عساها تفعل قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي أمام ملايين الشباب الذين خرجوا إلى الشارع واعتصموا فيه حتى يحققوا هدفهم في إسقاط حكم الرئيس صالح؟ وهكذا أصبح المواطن الأعزل أقوى فعليا من دبابات وصواريخ ومدفعية الحرس الجمهوري والأمن المركزي.

ورغم كل محاولات القمع والقصف والقتل هنا وهناك، فإن إرادة التغيير مضت للأمام على ضوء المبادرة الخليجية، التي تم تعزيزها وآليتها التنفيذية بقرارين من مجلس الأمن، نصرة للشعب اليمني ومنعاً لدخوله في حرب أهلية، إلى أن جاءت الانتخابات الرئاسية المبكرة في 21 فبراير الماضي، فخرج ما يقارب سبعة ملايين مواطن ليعطوا أصواتهم لعبدربه منصور هادي، رغم رهان كل الرافضين للتغيير أن هادي لن يحصل حتى على مليون صوت..

وهكذا وجد الرئيس هادي نفسه معززا، ليس فقط بدعم القوى السياسية اليمنية والمحيط الإقليمي والمجتمع الدولي، بل بإقبال شعبي حقيقي وغير مسبوق نحو منحه الثقة، وهي أمور لم تحدث مع أي رئيس يمني من قبل، ما يجعلنا إذا قلنا إن هادي هو أقوى رئيس في تاريخ اليمن الحديث بالمشروعية الوطنية والإقليمية والدولية التي يمتلكها، فليست في ذلك أي مبالغة بل هي عين الحقيقة، إذ إن الدبابات والصواريخ التي مازال الكثير منها لم يعترف واقعيا بقيادته، هي أضعف وأقل شأنا من أن تتمرد عليه، بل إنها إذا أرادت أن تستعيد هيبتها فعليها أن تنضوي كليا وفوريا تحت سلطته وشرعيته.

وبقوة المشروعية التي يمتلكها الرئيس هادي فإنه لن يحتاج لمشروعية القوة، ولذا فهو يتعامل بمسؤولية وحرص في عملية هيكلة الجيش الذي مازالت أقوى وحداته تخضع لإمرة نجل الرئيس السابق، وحيث مازالت العائلة الحاكمة السابقة تظن أن هذه القوة هي ورقة ضغط في يدها لمحاولة لي يد الرئيس هادي.

وعاجلا أم آجلاً سيكون على كل الأطراف التي تستقوي بالسلاح، أن تضعه طوعاً أو كرهاً، فمن سيختار أن يكون شريكا في بناء اليمن الجديد سيضعه طوعاً.. ومن أراد أن يفرض إرادته على هذا البلد بما يمتلكه من قوة مسلحة، فعليه أن يتدارك نفسه وأن يقرأ التاريخ ويستوعب متغيرات العصر، ويتعامل معه بلغته الجديدة ذات الآفاق الممتدة على مساحة هذا العالم الواسع.

Email