الحرية غير المسؤولة والتجني على شرف المهنة

قيل كلام كثير عن الحوار بين الحضارات وحوار الديانات، واحترام الآخرين ومعتقداتهم ودياناتهم. وقيل الكثير كذلك عن أن العولمة ستؤدي إلى تقارب الشعوب ودمقرطة الأنظمة، كما تؤدي إلى التفاهم والتسامح والتلاحم.

كما قيل إن تكنولوجيا الاتصال والإعلام، ستجعل العالم قرية صغيرة تتعرف من خلالها شعوب العالم على بعضها، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة التفاهم والتحاور، وإلى قلة النزاعات والحروب وبؤر التوتر في العالم.

 كما قيل كذلك كلام كثير عن دور الإعلام في تقارب الشعوب والثقافات والحضارات والديانات، وأن الإعلام يلعب دوراً استراتيجياً في نشر ثقافة التسامح والسلم واحترام الآخر، ومحاربة العنصرية والاستغلال والاستعمار والإرهاب واحتقار الآخر أو الاستهزاء به.

وكلنا نذكر حادثة الرسوم الدنمركية.. ففي 12 سبتمبر 2005 نشرت صحيفة "جيلاندز بوستن" الدنمركية، 12 رسماً كاريكاتورياً مسيئاً للرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مما أثار غضب المسلمين داخل الدنمارك وفي جميع أنحاء العالم. وفي 10 يناير 2010 أعادت صحيفة "مغازينات" النرويجية نشر الرسوم الكاريكاتورية الـ12.

حدوث هذه الإهانة والسخرية والانتقاص من قيمة الآخر والمساس بقدسية الرموز الدينية، باسم حرية التعبير وحرية الصحافة، وإن شتم الديانات الأخرى وأنبياءها، يتناقض جملة وتفصيلاً مع حرية التعبير وحرية الصحافة، حيث إنه لا توجد ديمقراطية أو نظام سياسي يسمح ويبيح التحريض على الكراهية أو الانتقاص والاستهزاء بقيم ورموز الآخرين المقدسة.

وقد فوجئ الشارع العربي والإسلامي بهذه الممارسة المسيئة لشخص النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فما حدث من الصحيفة الدنمركية وغيرها يتنافى جملة وتفصيلاً مع العمل الإعلامي الحرفي، المسؤول والملتزم. يتنافى مع رسالة الإعلام الشريفة والنبيلة، ومع قدسية الرموز الدينية.

والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: لصالح من، مثل هذه الاستفزازات والتصرفات غير المسؤولة؟ وما هي الأهداف من ورائها؟ وماذا ستضيفه لخدمة الإنسانية ومبادئها وقيمها؟ وماذا ستضيفه لتأسيس وبناء قنوات التواصل بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات؟ وإلى أي مدى ستخدم هذه الصور حوار الحضارات والثقافات والديانات؟ مثل هذه التصرفات، بدلاً من التقريب بين الشعوب، تعمق الفوارق والالتباسات وسوء التفاهم وانعدام الحوار، وانتشار الصور النمطية التي تفرز الحقد والكراهية والبغضاء والعنصرية.

والمؤسف للحادثة هو أن السلطات الدنمركية والمجتمع الرسمي والمدني، لم يحركوا حينها ساكناً، وكأن شيئاً لم يحدث. وهذا يعني أن الأمر عادي بالنسبة لهم، وأن الإساءة للآخرين ولمقدساتهم ودياناتهم لا تعني شيئاً لهم. والدليل أن استطلاعاً للرأي العام كشف أن أغلبية الدنمركيين لا يحبذون الاعتذار للمسلمين عما حدث، كمخرج وكحل للأزمة.

فأجاب 79٪ من عينة عشوائية شملت 579 مفردة، بأن رئيس الوزراء لا يجب أن يعتذر نيابة عن الدنمرك لما حدث، وقال 62٪ من المستطلعين إنه لا يتعين على صحيفة "جيلاندز بوستن" تقديم اعتذار لما يزيد على 1.3 مليار مسلم في أرجاء العالم، عما تسببت فيه الجريدة بنشر تلك الرسوم الكاريكاتورية المشينة، والمسيئة للدين الإسلامي ولعقيدة المسلمين، باسم حرية التعبير.

ما ارتكبته تلك الصحف في الدنمارك والنرويج وغيرهما، يخالف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيق وأخلاقيات العالم في معظم دول العالم، كما يتنافى مع مبدأ حرية الصحافة الذي يقوم على الالتزام باحترام الآخر واحترام معتقداته وديانته. كما تخالف تلك التصرفات مقررات منظمة الأمم المتحدة في حوار الأديان والحضارات.

الأخطر في القضية كلها، هو نتائج استطلاعات الرأي العام التي جاءت لتؤكد ماذا يدور في أذهان الناس العاديين. فالنتائج أكدت عدم الاعتراف بالخطأ، وعدم احترام معتقدات وديانات الآخرين، وهذا أمر خطير لأنه يشير إلى ضعف درجة التسامح والتفاهم والحوار بين الشعوب.

وهنا نلاحظ الدور العكسي والسلبي والخطير، الذي تلعبه وسائل الإعلام في عصر العولمة والثورة المعلوماتية والمجتمع الرقمي، وعصر القرية العالمية.

فبدلاً من تشجيع الحوار والنقاش والتفاهم والتعرف على خصوصية الآخر وثقافته، نلاحظ أن الآلة الإعلامية في المجتمع المعاصر، أصبحت تهدم أكثر مما تبني، وأصبحت تساهم في إثارة الفتن والحروب والنزاعات، أكثر من مساهمتها في نشر السلم والأمن والأخوة والمحبة والتلاحم والتفاهم بين الشعوب.

هذه الممارسات وغيرها، تظهر أن الحرية التي يطالب بها معظم المؤسسات الإعلامية في العالم والتي يتغنى بها الكثيرون، أصبحت فارغة من محتواها الحقيقي، حيث إنها آلت إلى أشخاص لا يعرفون المعنى الحقيقي للحرية، ولا يعرفون الالتزام باحترام الآخر وخصوصيته.

فالإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم هي إساءة إلى كل البشرية، والسخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم سخرية برسل الله كافة وبالبشرية جمعاء.

والغريب في الأمر أن الغرب يكيل بمكيالين، فالإساءة إلى رموزه أو قيمه ومعتقداته تعتبر خروجاً عن الأصول وعن الأخلاقيات والمهنية والحرفية، أما المساس بمعتقدات وقيم الآخر فهي من المباحات. والأغرب أن الذي يجرؤ على الكلام في موضوع المحرقة ـ الهولوكوست- يحاكم قضائياً ولا يعتبر ذلك مساساً بحرية الصحافة، أما الذي يسيء إلى الرسول والأنبياء والأديان والمعتقدات، فهذا شيء طبيعي وممارسة لحرية التعبير والصحافة!!

والتاريخ يذكرنا بمحاكمة رجاء غارودي، لا لشيء إلا لأنه دعا للبحث عن الحقيقة وشكك في الأساطير والخرافات والأكاذيب الصهيونية وروايتها عن الهولوكوست، معتمدا على الأدلة والأرقام والحجج والبراهين.

كما يذكرنا التاريخ بسلمان رشدي وتسليمة نسرين والاحتفاء بهما في العواصم الغربية، لا لشيء إلا أنهما أساءا للإسلام وللرسول صلى الله عليه وسلم. والإشكال المطروح هنا هو النية السيئة والخبيثة للمساس بالآخر، وللسخرية والتهكم والاستهزاء والإساءة.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو؛ ما الفائدة من كل هذا؟ وما هو الدور الحقيقي لوسائل الإعلام؟ هل هو التوعية والتثقيف والتعليم والتقريب بين الشعوب والأمم والحضارات والديانات؟ أم أن الهدف هو نشر الحقد والكراهية والصور النمطية والتضليل والتشويه؟!

 

الأكثر مشاركة