يبدو أن هناك قوى يمينية غربية، تريد أن تظل نظرية صدام الحضارات مسيطرة على النظام الدولي. فكلما تصورنا أن النظرية أصبحت من بقايا التاريخ، صنعت هذه القوى حدثاً يعيدها مرة أخرى إلى ساحة التفاعلات الدولية.

وآخر هذه الأحداث المصنوعة، هو الفيلم المسيء إلى الرسول الكريم، ثم ما تبعه من نشر رسوم مسيئة أيضاً إلى الرسول في صحيفة فرنسية. وغني عن القول إن القوى التي تصنع هذه الأحداث، ترتبط بصورة عضوية بالحركة الصهيونية العالمية، وأنها تهدف من وراء ذلك إلى تسميم العلاقة بين الشعوب الإسلامية ودول الغرب، وحرفها عن شكلها الطبيعي في الحوار الحضاري والعلاقات الاقتصادية والتجارية، إلى شكل صارخ من صدام الحضارات.

والأفعال المستفزة لمشاعر المسلمين، مدروسة وتقوم على دراسة سلوك بعض الجماعات المسلمة ومعرفة رد فعلها، وبالتالي فهي ليست عشوائية، سواء من حيث طبيعة الحدث أو توقيته، وتستهدف تحقيق أغراض سياسية. فعلى سبيل المثال، فإن الفيلم المسيء للرسول الكريم.

والذي أدى إلى ردود فعل عنيفة في الدول الإسلامية خلال الأسبوعيين الماضيين، ليس منقطع الصلة عن الانتخابات الأمريكية ورغبة اليمين الأميركي المتصهين في توجيه ضربات موجعة للرئيس باراك أوباما، في ملف السياسية الخارجية وعلاقته ببعض القوى الإسلامية التي حققت مكاسب في الربيع الديمقراطي العربي.

كذلك، كانت القوى الصانعة للحدث تدرك جيداً الخريطة السياسية والفكرية الموجودة في الساحة العربية الإسلامية، والدليل على ذلك أنها استثمرت الصراع الكامن والخفي بين قوى الإخوان المسلمين والقوى السلفية، وتدرك أيضاً أن بين الأخيرة قوى غير رسمية وأخرى جهادية لا تمكن السيطرة عليها أو تحجيم ردود أفعالها، وأن الأخيرة هي المرشحة لكي تبدي رد فعل عنيفاً في مواجهة الفيلم من دون مشاهدته.

وهي تريد بذلك أن تحرج قوى الإخوان الحاكمة في مصر وتونس، أمام الحكومات الغربية بما يدعو الأخيرة إلى التخلي عن مساعدة دول الربيع العربي، وهو ما يحقق مصالح إسرائيل. أما إذا استمرت في المساعدة فهي بذلك تقدم هدية لليمين الأميركي، الذي سيستثمر ذلك في الحملة الانتخابية ويتهم الإدارة الحالية بأنها رخوة في مواجهة تهديد المصالح الأميركية.

كذلك، أراد صناع الحدث محو الصورة الذهنية الرائعة التي ترسخت في أذهان المواطن الغربي، الذي شاهد كيف ثار العرب والمسلمون على ديكتاتورياتهم الحاكمة، بصورة حضارية وراقية، الأمر الذي جعل قوى اليسار الغربي تسعى إلى تقليد تجربتهم، وهو الأمر الذي تجلى في حركات "احتلوا" التي لم تقتصر فقط على "احتلوا وول ستريت"، وإنما ظهرت في أكثر من عاصمة غربية، متبعة نفس النهج الاحتجاجي الذي أبدعه ثوار ميدان التحرير وبعض المدن التونسية.

وتغير الصورة الذهنية لدى المواطن الغربي حول المواطن المسلم، أدى إلى هدم كافة الأسس التي قامت عليها الدعاية الصهيونية منذ أربعينات القرن الماضي وحتى قيام الثورات العربية، والتي كانت ترسخ لدى المواطن الغربي صورة مخالفة، وهي أن العربي أو المسلم شخص متخلف همجي غير عقلاني. وهذه الصورة فتحت المجال أمام نظرية صدام الحضارات، والتي وجدت في الإسلام والثقافة الصينية عدواً حضارياً جديداً، يختلف عن العدو السوفييتي الذي كان العداء له يقوم على النموذج الاقتصادي.

وما حدث من رد فعل على الفيلم المسيء، يعيد إلى الأذهان الغربية نفس الصورة السلبية السابقة عن العربي المسلم، ويعيد إنتاج النظريات المتعلقة بأسلوب التعاطي معه، وعلى رأسها نظرية صراع الحضارات التي يبدو أن اليمين الأميركي، الذي يريد العودة مرة أخرى إلى سدة السيطرة الحاكمة، يرى أنها النظرية الأمثل للعلاقات الدولية، إذا ما استطاع ميت رومني مرشح هذا التيار الفوز في الانتخابات الرئاسية الأميركية.

وكان رد الفعل الرسمي من الجانب العربي يدرك جيداً أبعاد هذه الهجمة الجديدة، وكان بعد فترة من التردد المبدئي، مناسبا للرد على هذه الحملة الجديدة، لأنه كان يعي جيدا أن أحد ابرز أهدافها هو الحيلولة دون النمو الطبيعي للعلاقات العربية ـ الغربية، في مرحلة ما بعد الربيع العربي. ولكن الذي وقع في الفخ المنصوب هو القوى الشعبية، خاصة السلفية منها التي نفذت السيناريو الموضوع من قبل القوى اليمينية المتطرفة التي صنعت الفيلم المسيء وروجت له.

وأزمة الفيلم المسيء تعيدنا مرة أخرى إلى نقطة الصفر، في ما يتعلق بالعلاقة بين العالم العربي الإسلامي وبين الغرب، وهي أن أمامنا طريقين، الأول هو الصدام الحضاري بين الجانبين، مع افتراض أن العالم مقسم إلى فسطاطين، أحدهما يمثل الحضارة والآخر التخلف والبربرية. أما الطريق الثاني فهو الحوار، بافتراض أن الجانبين ندين لبعضهما، فضلا عن أن هناك مصالح مشتركة تجمعهما.

ونقطة البداية هذه كنا نعتقد أنه تم تجاوزها، وأن نظرية صدام الحضارات أصبحت من مخلفات التاريخ، بعدما ثبت أنها بنيت على أخطاء تاريخية ومنهجية، وأنها تعبر عن أمنيات تيارات سياسية وإيديولوجية في الغرب، وأن هذه التيارات نفسها أصبحت من مخلفات التاريخ، بعدما أدخلت تصوراتهم العالم في حروب لم تنته حتى الآن، ولم تحقق أيه نجاحات على صعيد أهدافها الحقيقية.

وهي المزيد من الهيمنة الأميركية على العالم. وإعادة إنتاج هذه النظرية مرة أخرى، يؤكد الإفلاس الفكري لأصحابها أكثر من تعبيره عن جدية النظرية أو صلاحيتها لكي تكون منهجا للعلاقات الدولية في الألفية الثالثة.