تدمير الأوابد التاريخية

ت + ت - الحجم الطبيعي

أحرق قصف الجيش السوري العسكري سوق حلب القديمة المسقوفة، التي يبلغ طولها مع الأسواق المتفرعة عنها حوالي 13 كم، وهي أطول الأسواق المسقوفة في العالم. وتضم السوق أقساماً لجميع أنواع البضائع القديمة والحديثة، من الحرير إلى الخيش، ومن العباءات إلى الألبسة الحديثة، ومن الأكسسوارات إلى مشغولات الذهب والفضة.

وتشكل هذه السوق في الواقع متحفاً كبيراً يضم جميع أنواع البضائع ويدهش من يدخله، ولذلك كان الشاعر المتنبي مغرما بهذه السوق، ويمضي جزءاً من يومه في التجول فيها والتفرج على بضائعها ومراقبة آليات عملها وتقاليدها وتعامل المتسوقين مع أصحاب المحلات.

ويقول المؤرخون إن عمر السوق هو آلاف السنين، وإنه بدئ ببنائها منذ أكثر من ألفي عام، وما زال البناء يستكمل حتى صار تحفة للناظرين وازدهر، خاصة في أيام حكم المماليك، أي في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، وقبل ذلك أيام حكم سيف الدولة الحمداني في القرن العاشر الميلادي. وهذه هي المرة الأولى التي يحرق فيها السوق ويدمر، رغم الغزوات الهمجية العديدة التي استهدفت حلب خلال التاريخ

ومنها خاصة غزوة المغول في القرن الثالث عشر، وغزوة تيمورلنك في القرن الرابع عشر، ومع أن تيمور قطع رؤوس الحلبيين وبنى بها أهراماً، إلا أنه لم يتعرض لسوق حلب بسوء، باستثناء بعض المنهوبات هنا وهناك التي قام بعض جنوده بنهبها خلال الأيام الأولى من الغزو.

وقبل ذلك كانت حلب قد واجهت حروباً وغزوات عديدة، منها بين اليونان وبيزنطة والفرس، وحروب الفرنجة (الصليبيين) وغيرها، ولم يجرؤ أحد من الغزاة على أن يتعرض للسوق بسوء، تجنباً لغضب الثقافة الشعبية التي كانت تحترمها وتكاد تقدسها وتنسج حولها الأساطير.

قصفت قوات الجيش السوري أيضاً قبل أيام، دير الراهب بحيرا في بصرى الشام، وهو دير بني أيام البيزنطيين، وكان يقيم فيه الراهب بحيرا النسطوري، وكانت قريش في تجارتها إلى دمشق تعتبر منطقة الدير (كغيره من الأديرة)، مكاناً للراحة والتزود بالطعام، ثم تستأنف مسيرة قافلتها إلى دمشق.

وقد استقبل فيه الراهب بحيرا النبي محمد (ص)، وتوسم فيه خيراً، ودهش من ثقافته وبعد أفقه ورؤاه الشاملة للكون والحياة، وتقول الأدبيات الإسلامية إن الراهب بحيرا أوصى عم الرسول، الذي كان مع القافلة، به خيراً وتنبأ بمستقبل استثنائي له، وأشار إلى أنه سيغير مسار تاريخ العالم.

وبقي الدير قائماً بحجارته البازلتية السوداء الأصلية مزاراً للسواح حتى الآن، يحترمه الجميع من السوريين وغير السوريين، ورغم الغزوات العديدة التي تعرضت لها بصرى الشام خلال التاريخ، لم يحاول أحد من الغزاة المس بالدير أو هدمه أو تخريب جزء منه، لا البيزنطيون ولا الفرس ولا الصليبيون ولا المغول ولا أي غاز آخر.

من المعروف أن التراث والثقافة والآثار ومنتجات الأجيال المتعاقبة، المادية والروحية والثقافية، هي التي تشكل هوية الأمة وتحدد مواصفات شخصيتها، وتغني هذه الشخصية باستمرار كما تغني تراث البشرية، وتؤثر في الثقافة الإنسانية.

ولذلك اختارت اليونيسكو وتختار كل عام، مناطق ومدناُ وآثاراً وأسواقاً وأبنية وشوارع، وأحياناً مخطوطات وكتباً وألبسة وغيرها، تسميها تراثاً إنسانياً، وتتولى صيانتها وحمايتها والحفاظ عليها، لأنها هي الأعمدة الحقيقية للبنيان الثقافي الإنساني ولمضمون الثقافة الإنسانية، وفي ضوء ذلك أيضاً تحافظ البلدان على آثارها وتراثها، وتحميهما وتصونهما وتعتبرهما من أغلى ممتلكات الأمة الثقافية والمادية.

نلاحظ في الأشهر الأخيرة أن من يتولى القصف المدفعي والجوي في سوريا، لا يهتم بالآثار ولا بالتراث، فقد قصف أكثر من قلعة أثرية، ولم يكن يرف له جفن عند قصف هذه المنشآت الأثرية بالصواريخ والمدافع، بل وبالطائرات. ومن المؤكد أنه لا أهمية حربية معاصرة لهذه القلاع، وبالتالي فإن قصفها وتدميرها لا يفيد عسكرياً، ولا يساهم في انتصار.

طرحت الصحف ووسائل الإعلام العربية والأجنبية، كما طرح السياسيون والمراقبون سؤالاً هاماً، هو: ألا يبرر حفظ حياة الناس وضمان مستقبلهم وخنق الفتنة وتحقيق استقرار البلاد تدمير الآثار والتراث وما يشبه ذلك؟

لا جدال في أن الإنسان هو الأثمن والأغلى، وأن حياته لا تقدر بثمن، سواء كان الثمن مالياً أم أثرياً أم بناءً أم أي شيء آخر، ولكن السؤال الملح هو؛ هل هناك حاجة عسكرية لتدمير هذه الآثار؟ لأنها لا تصلح ملجأ لا للمتمردين ولا للجيوش ولا للمسلحين ولا لأي شيء، وبالتالي فإن القول بأن تدميرها ينقذ حياة الإنسان هو قول لا مصداقية له.

تجدر الإشارة إلى أن البلدان العربية هي الأغنى بالآثار والتراث، ومع ذلك فهي الأقل احتراماً للأوابد الأثرية والتراثية والتاريخية، بينما لاحظنا خلال الثورة الليبية أن الطيارين الأميركيين رفضوا قصف أحد المسارح الرومانية التي قيل لهم إن سلاح جيش القذافي يخزن فيها الأسلحة، لا لموقف إنساني منهم (فهم لا يحللون ولا يحرمون)، وإنما لأن التراكم الثقافي الدفين لديهم كان له أثر في منعهم من قصف هذه الآثار.

وقبل ذلك وخلال الحرب العالمية الثانية، رأى بعض المؤرخين أن الجنرال الفرنسي بيتان استسلم للألمان، لا جبناً منه وإنما كي لا تدمر باريس وتراثها الثقافي وأوابدها الأثرية، وأن هذا السبب هو نفسه الذي جعل الجنرال ديغول زعيم تحرير فرنسا، يزور قبر بيتان بعد عودته لفرنسا وتسلمه السلطة، مع أن بيتان موسوم بالخيانة، لأن ديغول أدرك معنى أن تنجو باريس من الدمار والتخريب، وأن تبقى الذاكرة التاريخية الفرنسية حية ومستمرة، وتلعب دورها ووظيفتها في الشخصية الثقافية والوطنية الفرنسية.

 

Email