ماذا قدمنا للعالم؟

ت + ت - الحجم الطبيعي

كان يعمل طاهياً في أحد الفنادق الشهيرة في الهند، وفي يوم من الأيام مرّ في قريته فرأى أناساً يأكلون من فضلات الآخرين في القمامة، فقال في نفسه: "ما الغاية من حياتي؟ وكيف أُطعمَ الناس كل يوم ولا أستطيع إطعام أهل قريتي!"، فاستقال من عمله في عام 2002 وتفرّغ لإطعام الفقراء حتى اليوم.

وفي مقابلة لقناة سي إن إن، قال "ناريانان كريشنا" الذي ينحدر من عائلة براهماتية، إنه يحرمُ عليه كبراهماتي هندوسي أن يقرب الفقراء والمعوزين أو يلمسهم، ولكنه عندما فكّر أيقن بأن في جسد كل إنسان 5.5 ليترات من الدم، ما يجعل الناس كلهم سواسية في عينيه. ولم تعد أشكالهم أو أعراقهم أو أديانهم تهمه، وكل ما يهمه هو إدخال السعادة على قلوب المحتاجين.

حيث يصحو كل يوم ليحضر لهم الإفطار، ومن ثم يقوم بزيارة المنبوذين فيطعمهم ويغسل أجسادهم ويحلق شعورهم، ليشعرهم ـ على حد قوله ـ أنهم بشر مثلنا. ويضيف: "الطعام يُغذّي أجسادهم، والحب يغذي أرواحهم".

ويُحكى أن المهاتما غـاندي كان يلحق بقطار، وعندما قفز إليه سقطت فردة حذائه على سكة الحديد، فقام بسرعة بخلع الفردة الأخـرى ورماها إلى جانب الأولى، فاستغرب من معه وسألوه عن فعلـه، فقال لهم: "حتى عندما يجد فقير هذا الحذاء يستطيع أن يستفيد منه". إلا أن العبرة ليست في فعل غاندي أو في تضحيات كريشنا، ولكنها في الثقافة الإنسانية التي يتحلّيان بها. فقيمهما الإنسانية واضحة، ومبادئهما في الحياة مرتكزة على فكرة العطاء، أياً كان نوعه أو حجمه.

وقبل أيام تحدث بيل غيتس عن تعاونه مع الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، لمساعدة مناطق منكوبة مثل أفغانستان وباكسـتان وشـمال نيجيريا، على محـاربة شلل الأطفال، الذي على رغم انحساره من معظم دول العالم، إلا أنه ما زال يحصد ملايين الأطـفال فـي هذه الدول الثلاث.

وتقوم المبادرة، التي انطلقت قبل عـام والبالغـة قيمتها حـتى الآن مئـة مليون دولار، على توفير لقاحات ضد ذلك المرض، إلى جانب وباء الالتهاب الرئوي. ففي أفغانستان، على سبيل المثال، يموت طفل من كل أربعة أطفال قبل بلوغه سن الخامسة.

وفي باكستان ترفض القبائل قبول أي مساعدات آتية من مؤسسات غربية، ولذلك قام سمو الشيخ محمد، إلى جانب التبرع، بالتدخل وإقناع القبائل بقبول المساعدات لإنقاذ أطفالهم، ما سهل علـى مؤسسة غيتس الوصول إلى المحتاجين بصورة سهلة وفعالة.

واللافت للنظر أن جميع المناطق التي تعاني من الأوبئة في تلك الدول الثلاث، هي مناطق مأهولة بالمسلمين، إلا أن ذلك لم يمنع غيتس من مساعدتهم، متجاوزاً حدود الأعراق والأديان، ودافعاً بالعمل الإنساني إلى أقصى حدوده، وفي أجمل صوره.

وكثيراً ما يسألني الناس عن الوجود الإماراتي في أفغانستان، حيث يتهم البعض قواتنا المسلحة بأنها تدعم الوجود الأميركي، والحقيقة تقول عكس ذلك تماماً. فالقوات الإماراتية تقوم بتأمين قوافل المساعدات إلى المناطق المحتاجة، وتُؤمّن القرى من العصابات وقطّاع الطرق. ولقد أنفقت الإمارات في أفغانستان في عام 2009، أكثر من مليار ومئتي مليون درهم لتحقيق تنمية مستدامة في البلاد.

وكان من منجزاتها بناء إحدى عشرة مدرسة، وستة مستشفيات عالجت أكثر من 35 ألف أفغاني، وأنشأت جامعة زايد التي يدرس فيها 6400 طالب وطالبة، وبَنَت 38 مسجداً، ومكتبة عامة تتسع لأكثر من أربعمئة زائر في اليوم، وأنشأت مدينة زايد التي تضم مساكن لـ3330 عائلة، وحفرت أكثر من 160 بئراً لتوفير مياه صالحة للشرب.

هناك فرق بين العمل الخيري والعمل التنموي، فلا يكفي أن نضع أموالاً في صناديق التبرعات ونمضي، وعلينا، كما قال غيتس، أن نساعد الناس على أن يحيوا حياة كريمة، ونعطيهم الأدوات التي تمكنهم من كسب عيشهم بأنفسهم، لنضمن ألا يعودوا للحاجة مرة أخرى، وحتى نحقق تنمية مستدامة في المناطق الفقيرة.

وفي ختام المحاضرة، التي شجع فيها غيتس الحضور على البدء بأعمال تنموية من سن مبكرة حتى تنشأ ثقافة جديدة في المجتمع قوامها التنمية البشرية، حكى سمو الشيخ محمد بن زايد حادثة جرت له عندما عاد من تنزانيا فسأله المغفور له بإذن الله الوالد الشيخ زايد عمّا فعله لقبائل الماساي، فرد سريعاً: "لا شيء، لأنهم ليسوا مسلمين".

فأمسكه الشيخ زايد من يده ونظر إلى عينيه وقال: "أليس الذي خلقك قد خلقهم؟". فعاد سمو الشيخ محمد وبدأ العمل على الفور، واليوم تتمتّع 27 قرية في مناطق الماساي في تنزانيا بآبار مياه، ومدارس وعيادات وخدمات عامة.

اسأل نفسك الآن: ماذا قدّمتَ للعالم؟ وما هي القيمة العليا في حياتك؟ ولا تحزن إن لم تملك مالاً لتقدمه للمحتاجين، فالعطاء لا يحتاج إلى أموال عظيمة، بل إلى نفوس عظيمة.

 

Email