حتى يتغير الآخرون على الفلسطيني أن يتغير

ت + ت - الحجم الطبيعي

بعد محاولات إسرائيلية حثيثة، اشتغلت على أولوية معالجة الملف النووي الإيراني، عادت السياسة الإسرائيلية لتنضبط نسبياً للرؤية الأميركية إزاء كيفية التعاطي مع هذا الملف، ولكن بدون أن تنجح إدارة الرئيس باراك أوباما في استبدال هذا الملف كأولوية للسياسة الإسرائيلية بملف السلام مع الفلسطينيين.

الأمر واضح، فحين يختلف الطرفان على قضية من مستوى ينطوي على تداعيات محلية أو إقليمية، تبادر إسرائيل إلى العمل، حين تكون قادرة على خوض المغامرة بدون مساعدة مباشرة ومسبقة من الولايات المتحدة، أما حين تعزوها القدرة، وتكون بحاجة ماسة للقوة الأميركية، فإن القرار يكون للثانية.

في الأساس فإن الأولويات والمبادرات تحددها المصالح، التي لابد أن تلحظ التباين فيما بينها بالرغم من أن التقاطعات كبيرة بين مصالح الدولتين إسرائيل والولايات المتحدة، ولذلك فإن التباين الذي ينشأ عنه تعارضات علنية، هو تباين ثانوي، ينضبط أخيراً، لمعادلة المصالح المشتركة، ولعلاقات التحالف القوية، بما لا يسمح لأي طرف آخر أن يلعب على هذه التباينات.

ليس في وارد القيادة الفلسطينية أن تجعل من قرار التوجه للأمم المتحدة، بطلب تغيير مكانة فلسطين فيها إلى دولة غير عضو، نقطة تحول في السياسة العامة، عن الخيار غير المجدي الذي تتمسك به الولايات المتحدة، ودأبت إسرائيل على نسف أسسه، ونقصد خيار المفاوضات والعملية السلمية.

وعلى الرغم من أن إسرائيل لا تتردد في أن تفعل أي شيء وكل شيء لتقويض ومصادرة الحقوق الفلسطينية، وبالتالي تقويض أسس المفاوضات ومرجعياتها، إلى أن يخضع الفلسطينيون لمحتوى وشكل "السلام" الذي تريده إسرائيل، نقول على الرغم من وضوح هذه السياسة، إلا أن الفلسطينيين لا يزالوا يعتقدون بإمكانية متابعة العملية السياسية.

جملة التحركات والتصريحات التي تصدر عن القيادة الفلسطينية الرسمية تشير إلى أن كثرة الشكوى، وإظهار اليأس من السياسة الإسرائيلية، ومن إمكانية العودة إلى المفاوضات، لا تقود إلى النتيجة المنطقية المنتظرة، وهي التحول عن هذا الخيار، إلى خيار إعادة بناء الذات الفلسطينية، والانتقال إلى مربع الاشتباك وخوض الصراع.

خلال الأيام الأخيرة، وربما تحت ضغط الأزمة المالية التي تعاني منها السلطة بسبب الضغط الأميركي، على خلفية القرار الفلسطيني بالتوجه للأمم المتحدة، أكثر المسؤولون الفلسطينيون من التأكيد على أنهم ملتزمون بالمفاوضات والعملية السياسية، فهم يرغبون في الحصول على الشرعية، ولا يسعون إلى نزع الشرعية عن إسرائيل، وهم مستعدون لمتابعة المفاوضات، بعد أن يحصلوا على القرار المطلوب من الأمم المتحدة.

لا يخلو من دلالة في هذا الاتجاه ما تناقلته وكالة الأنباء الصينية عن لقاء جرى في عمان بين الرئيس محمود عباس، ووزير الدفاع الإسرائيلي ايهود براك يوم الخميس الحادي عشر من هذا الشهر، وتكتم عليه الطرفان، الأول لأن لقاء سابقاً كان يفترض أن يتم في رام الله بين الرئيس، والجنرال المعارض شاؤول موفاز، كان قد أدى إلى اندلاع احتجاجات شعبية منعت إجراءه، والثاني لأن له أجنده حزبية تتصل بحاجة حزب براك لتحسين مواقعه في الانتخابات المبكرة التي تقرر إجراؤها في إسرائيل في الثاني والعشرين من يناير المقبل.

وفي السياق ذاته، الإعلان الفلسطيني المفاجئ والمستغرب، من أن المفاوضات مع رئيس الوزراء السابق، المتهم بالفساد أيهود أولمرت، كانت قد قطعت شوطاً كبيراً نحو النجاح في التوصل إلى اتفاق، لو أنه أتيح لأولمرت شهرين إضافيين. لا مشكلة لو أن الفلسطينيين يفكرون التمييز بين أولمرت، أو براك، ونتنياهو وليبرمان، لكن الأرجح أن هذا السلوك يفضي لطمأنة الإدارة الأميركية، إلى تمسك السلطة الفلسطينية بخيار المفاوضات والعملية السلمية.

تعكس هذه السياسة قدراً عالياً من المرونة غير المجدية، والتردد، خصوصاً وأنها لا تستند إلى فعل نضالي شعبي أو غير شعبي، يستظهر وجود أزمة في هذه المنطقة، بالقدر الذي يستدعي اهتماماً دولياً، أو حتى عربياً وإقليمياً، لكن في غياب هذا الفعل، وفي غياب الوحدة الوطنية، فإن هذه السياسة تنتمي إلى التكتيك الدفاعي السلبي.

ذلك أن إسرائيل ستواصل هجومها، وعدوانها طالما أنه يؤدي إلى مزيد من التراجعات على الصعيد الفلسطيني، فهي تواصل إدارة الظهر لمفاوضات السلام، وتواصل تكثيف الاستيطان، وتنتقل بملف تهويد القدس إلى تهويد المسجد الأقصى، بغرض تقسيمه، وفي الوقت ذاته تصعد تهديداتها بتوسيعه إلى عملية شاملة، ضد قطاع غزة.

أما على صعيد إعادة بناء الذات الفلسطينية، فإن الأوضاع تتجه نحو تعزيز وتعميق الانقسام، عبر الانتقال إلى الصراع حول الشرعية العربية والإقليمية، والتنافس حول مسألة التمثيل الفلسطيني. المشهد الفلسطيني العام يشير إلى غياب المبادرات للحوار والمصالحة، وإلى تعميق أزمة الثقة، وتفاقم أزمة وتداعيات طغيان الأجندات الفئوية على الأجندة الوطنية، واستهداف وحدانية التمثيل عبر منظمة التحرير الفلسطينية بدلاً من الانخراط فيها وإعادة بنائها، وتعزيز دورها.

الفلسطينيون يواصلون استنزاف الجهد الوطني، وبالتأكيد على حساب القضية والحقوق، والهوية الوطنية، يساعد في ذلك التغييرات التي تجتاح الوطن العربي فيما يسمى "بالربيع العربي"، الذي يوفر فرصةً تاريخيةً لحركة الإخوان المسلمين، لكي تلعب دوراً قيادياً أو متقدماً في معظم الدول التي تحققت فيها عملية التغيير.

إن كان هذا هو معنى ومغزى الربيع العربي، فهو في ظل استمرار السياسات والأوضاع الفلسطينية، إنما يشكل خريفاً قاحلاً، يترتب على القوى الوطنية والديمقراطية الفلسطينية التبصر بأبعاده ونتائجه، ومآلاته على القضية الفلسطينية، بما أنها قضية وطنية ذات أبعاد عربية وإنسانية.

والحال، أن المآل الذي بلغه خيار المفاوضات والحل السلمي، وأيضاً المآل الذي ينبئ به خيار الأجندات الفئوية والمشاريع الخاصة، ينبغي أن يدق أجراس إنذار صاخبة لدى كل الفلسطينيين الذين عليهم أن يبادروا لإجراء تغيير شامل في خياراتهم وآليات عملهم وفي علاقاتهم وتحالفاتهم، بما يؤدي إلى رسم ملامح الربيع العربي الفلسطيني المرغوب، قبل أن تجتاحهم سنوات الخريف.

والقحط والجفاف، فإذا كانت إسرائيل ثابتة على سياستها المعادية للسلام ولحقوق الشعب الفلسطيني، وكانت الولايات المتحدة ثابتة في دعم السياسة الإسرائيلية، وإذا كانت التغييرات العربية ستظل محكومة للمعادلات التي خلقها في المنطقة التحالف الأميركي- الإسرائيلي، فإن على الفلسطينيين أن يتغيروا، وأن يراهنوا على أن التغيير الجدي لطرفهم، هو بداية الطريق لتغيير الثوابت الأخرى.

 

Email