الموقف الروسي والأزمة السورية

لاشك أن الموقف الروسي من الأزمة السورية منذ بدايتها حتى الآن أثار استغراباً وتساؤلات عديدة لدى الشعب السوري والشعوب العربية والمحللين السياسيين ولدى الدول الأخرى، ذلك لأنه كما ترى المعارضة السورية لا يتمتع بأي مصداقية، ويسيء إلى سمعة روسيا التاريخية ورصيدها لدى السوريين، في الوقت الذي لا ترى المعارضة أن روسيا حققت أي مصلحة من هذا الموقف، أو أنها أسست لاستمرار تأمين مصالحها فيما إذا تغير النظام، وعلى ذلك فالمعارضون لا يجدون تفسيراً للمواقف الروسية التي مارست حق الفيتو ثلاث مرات منذ بدء الأزمة، ومازالت تمنع مجلس الأمن من اتخاذ أي قرار ملزم للنظام السوري من شأنه أن يحل المشكلة.

ويؤكد مسؤولوها وخاصة وزير الخارجية لافروف في تصريحاتهم الكثيفة والمتتالية بأنهم لن يقبلوا تنحية الرئيس الأسد من قبل الدول الخارجية، كما لن يقبلوا فرض أي حل على الشعب السوري، ويذكٌرون يومياً بضرورة تطبيق قرارات مؤتمر جنيف المتعلقة بسورية، ويرفضون أي مشروع حل خارجها. وربما تشارك الدبلوماسية الغربية (الأوروبية والأميركية) المعارضة السورية رأيها، وتحتج دائماً أن الموقف الروسي يمنعها من اتخاذ قرار دولي يكون مبرراً وغطاءً شرعياً لأي إجراء تريد اتخاذه، وخاصة تحت الفصل السابع من ميثاق هيئة الأمم المتحدة.

لقد بدا واضحاً أن السياسة الروسية متحالفة جدياً مع السياسة الإيرانية تجاه الأزمة السورية (وتجاه غيرها) وحاول المسؤولون الروس امتصاص نقمة الشعب السوري عليهم وعلى سياستهم بالقول أكثر من مرة، انهم لا يدافعون عن الأسد وإنما عن القانون الدولي والشرعية الدولية، وقد أدى هذا الموقف لأن يعتبر الشعب السوري السياسة الروسية طرفاً في التحالف وواحداً من الأعداء.

لوحظ في الأسبوعين الأخيرين مؤشرات لسياسة أخرى من خلال تصريحات بوغدانوف نائب وزير الخارجية والمكلف من رئيس الجمهورية الروسية بوتين بمتابعة الأزمة السورية، أوحى فيها أن لا مانع لدى السياسة الروسية من تغيير النظام.

كما أوحى أن الخلاف مع المعارضة السورية ليس حول تنحية الرئيس الأسد وإنما حول موعد التنحية، هل هو قبل بدء المرحلة الانتقالية أم بعدها، لأن الروس يعتقدون أن التنحية بعد المرحلة الانتقالية تجنب سورية من اضطرابات وعمليات ثأر واستفزازات واعتداءات طائفية، وبالتالي فإن صحت هذه التصريحات على لسان بوغدانوف تكون السياسة الروسية تراجعت نسبياً عن مواقفها السابقة، وقطعت نصف الطريق نحو لقائها مع المعارضة السورية وحتى مع الغرب الأوروبي والأميركي وأخيراً مع العرب، مع أن تصريحات وزير الخارجية لافروف المناقضة لهذه التصريحات أكدت مجدداً إصرار السياسة الروسية على ما كانت عليه.

يبدو أن الموقف الروسي من الأزمة السورية كان خلاصة لتحليل شامل للوضعين الإقليمي والعالمي أجرته السياسة الروسية، وأخذت في اعتبارها، أن سورية هي آخر موطئ قدم لروسيا في الشرق الأوسط، خاصة وأن لديها فيها قواعد رصد متعددة، وهي المصدر الوحيد للسلاح السوري، وإذا أرادت أن تعود للتأثير في السياسة العالمية.

كما كان حالها أيام الاتحاد السوفييتي، فينبغي أن تتشدد في موقفها من دعم النظام السوري. ويذهب بعض المحللين بعيداً في تخيلاتهم فيقولون ان في ذهن السياسة الروسية إمكانية الوصول إلى المحيط الهندي بطريق(الهلال الشيعي المفترض )، والأمر الهام الأخير الذي يراه بعض المحللين هو أن السياسة الروسية تخشى من أن نجاح الانتفاضة السورية وتغيير النظام سيكون محرضاً لسكان القوقاز (من المسلمين وغيرهم) ليتبعوا الطريق نفسها.

وبالتالي فالموقف الروسي هو دفاع مبكر جداً عن احتمالات قد تكون متأخرة، ومن المهم ألا ننسى المرابح الاقتصادية التي تجنيها السياسة الروسية من العلاقة مع إيران ومع العراق وبيع الأسلحة إلى هذين البلدين، وبالتالي فإن السياسة الروسية مضطرة لمثل هذه المواقف من الأزمة السورية، ويبدو أن الروس يرفضون إعادة حساباتهم وتوسيع طيف رؤاهم لمسافة أبعد، ليقتنعوا أن تغيير النظام في سورية لصالح المعارضة سيضرب مصالحهم الاستراتيجية والاقتصادية إن بقيت سياستهم الحالية.

وبالتالي فلا بد لهم من حفظ خط الرجعة، وتبني سياسة معتدلة ومتوازنة بين المعارضة والنظام، فضلاً عن حاجة روسيا لاستعادة مصداقيتها لدى شعوب العالم، التي تعتبر أن استخدام الفيتو الروسي هو عمل غير أخلاقي صد شعب يدمره نظامه بدون رحمة.

قد تساهم الضغوط الأميركية والأوروبية والعربية الشديدة على روسيا في تغيير هذا الموقف، وأشير خاصة إلى الضغوط الفرنسية في أوروبا، والضغوط الخليجية في البلدان العربية (وخاصة بعد أن يجتمع وزير الخارجية الروسي مع وزراء خارجية الدول الخليجية الشهر المقبل). كما أن الانتخابات الرئاسية الأميركية ستحمل معها موقفاً أميركياً أكثر وضوحاً وحزماً من الأزمة السورية.

ومن يدري فقد يقايض الأميركان السياسة الروسية على تقديم ثمناً لها مقابل تغيير موقفها، مثل عدم العمل لإدخال جمهوريات سوفييتية سابقة في حلف شمال الأطلسي، أو اتخاذ موقف جديد يتعلق بالقواعد الصاروخية المحتمل إنشاؤها في بولونيا، أو أي تنازل آخر في منطقة أخرى أو موضوع آخر في العالم.

وهكذا سواءً كانت الخشية الروسية من الخسارة فيما إذا تغير النظام، أم محاولة استعادة موقف أخلاقي مفقود، أم وجود ضمانات أميركية وأوروبية تحفظ مصالح روسيا، فإنها كلها أسباب قد تؤدي إلى تغيير السياسة الروسية، أو على الأقل ستكون دافعاً لمثل هذا التغيير في المستقبل القريب، فلم يعد من الخيال السياسي توقع تراجع روسيا عن موقفها الداعم بلا تحفظ للنظام السوري، بل ربما أصبح الأمر في حدود الممكن.

 

الأكثر مشاركة