التوازن الهش

ت + ت - الحجم الطبيعي

موجة التصعيد العدواني الأخيرة على قطاع غزة التي كان من أبرز نتائجها اغتيال أحمد الجعبري قائد كتائب القسام، تنطوي على أبعاد إقليمية مستجدة لم تكن متوفرة خلال السنوات الماضية، التي كانت تشهد انتهاكات متواصلة من قبل الجيش الإسرائيلي لمناخ التهدئة الواقعية التي يفترض أن تسود على جبهة القطاع. من جانب فإن حركة حماس التي تسيطر على القطاع، تحتاج لإدامة التهدئة وتبذل جهوداً عملية لضمان عدم إطلاق الصواريخ من قبل الفصائل الأخرى، التي تجاريها على الأغلب، بعضها لقناعتها بمبدأ التهدئة، وبعضها الآخر، لأنها لا ترغب في أن تجد نفسها في حالة صدام مع حماس وحكومتها.

في الأساس فإن حركة حماس التي تتبنى خيار المقاومة كبديل لخيار المفاوضة الذي أثبتت السنوات الطويلة فشله، تحتاج للتهدئة لتكريس وتعميق تجربتها في الحكم والسيطرة، ولأن هذه التهدئة مطروحة من حيث المبدأ في فكر الحركة ورؤيتها، إذ طرحت مبكراً فكرة التوصل إلى هدنة طويلة الأمد مع إسرائيل. غير أن الحركة التي تتسم بالبراغماتية، كانت تسارع إلى خرق التهدئة، وإطلاق الصواريخ، حين كان الرئيس ياسر عرفات، يسعى إليها وكان ذلك السلوك، يندرج في إطار معارضتها للسلطة وسياساتها، ومن أجل تحسين شعبيتها ودورها السياسي.

على أن حركة حماس، والفصائل الأخرى لم تكن تستنزف أيام التهدئة مجاناً، فلقد راحت جميعها تحسن قدراتها التسليحية والتدريبية واللوجستية، بحيث امتلكت أنواعا جديدة من الأسلحة والذخائر التي تصل إلى مديات أبعد، وتعرض المزيد من سكان المستوطنات والكيبوتسات والمدن الإسرائيلية لخطر الصواريخ، إلى الحد الذي يدق أجراس الخطر لدى القيادات العسكرية والأمنية والسياسية في إسرائيل، ويجعل بعض قادة المقاومة يتبجحون بأنهم حققوا عنصر الردع.

في الواقع فإن من الخطأ الاعتقاد والتصرف على أن امتلاك منصات صاروخية متقدمة على ما يتوفر للفلسطينيين، من شأنه أن يؤدي إلى توازن الرعب، ذلك أن المقارنة بين ما تملكه وما يمكن أن تملكه الفصائل من أسلحة وأعتدة، لا يمكن بحال مقارنته مع ما تملكه إسرائيل من أسلحة دمار شامل. هنا علينا أن ننتبه إلى أن إسرائيل هي التي تبالغ عمداً في تضخيم ما يتوفر لدى الفصائل الفلسطينية من أسلحة وأعتدة، وذلك لتبرير اعتداءاتها المتكررة على قطاع غزة، بدعوى الدفاع عن النفس وحماية أمنها القومي، فالأصل هو أن إسرائيل دولة محتلة، وعدائية، ولا تتورع عن استخدام القوة المفرطة لإخضاع الشعب الفلسطيني، بما في ذلك ارتكاب مجازر، وجرائم حرب كما أكد تقرير القاضي غولدستون بعد حرب الرصاص المصبوب على غزة نهاية عام 2008.

إذاً من الخطأ مبدئياً أن يتصرف الفلسطينيون، من موقع القادر على المبادرة، فيما هم ضحايا للعدوان الإسرائيلي، لأن مثل هذه الادعاءات توفر لإسرائيل المزيد من الذرائع. أما العنصر الذي دخل على الخط لدى الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، فهو يتعلق بتغيير الأوضاع في مصر بعد الإطاحة بنظام مبارك، وفوز الإخواني محمد مرسي بكرسي الرئاسة، فلقد بدأت حركة حماس تشعر بتوفر حماية مصرية لتجربتها.

هذا الواقع الجديد جعل رئيس الحكومة المقالة في غزة إسماعيل هنية يقول، إن زمناً قد مضى، هذا الذي كانت فيه مصر تشكل غطاءً للسلوك الإسرائيلي العدواني، وجعل أيضاً كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، ترد بسرعة إعلامياً، وعملياً على الاعتداءات الإسرائيلية، وبالإضافة إلى ذلك شكلت زيارة أمير قطر إلى قطاع غزة، وإعلانه عن تخصيص نحو 400 مليون دولار لإعادة إعمارها، سبباً آخر يفسر رغبة حماس في استمرار التهدئة لتوفير المناخ الملائم لإعادة الإعمار، ولتشجيع المزيد من المسؤولين العرب أو الإسلاميين على أن يحذوا حذو الأمير القطري.

يعلم الجميع أن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان أبدى رغبته في أن يقوم بزيارة قطاع غزة، على أن يصطحب معه الرئيس محمود عباس، لتحقيق هدفين، المصالحة، وتقديم بعض المساعدات في إطار إعادة الإعمار، لكن هذه الزيارة تأجلت لأسباب تتعلق باحتمالات عدم نجاح هدف المصالحة.

على الجانب الإسرائيلي أيضاً لوحظ بأن السياسة الإسرائيلية ليست مستعدة للمغامرة في اختبار رد الفعل المصري في حال شنت إسرائيل عدواناً واسعاً ضد قطاع غزة، خاصة وأن العلاقة بين الطرفين قلقة وتسودها الشكوك، إثر مطالبة مصر بتبديل اتفاقية كامب ديفيد.

الفلسطينيون في قطاع غزة باتوا يدركون المدى الذي تستطيع إسرائيل أن تصله حين تشن عدواناً على القطاع، فهم يدركون أنها يمكن أن تفعل الكثير ولكن بدون أن يؤدي ذلك إلى تغيير واقع الانقسام حيث تسيطر حماس على غزة وفتح على الضفة، وأيضاً بدون أن يؤدي ذلك إلى إعادة احتلال القطاع. هذا التغير جعل الطرفين إسرائيل وحماس، يدرك كل منهما الحدود التي يتحرك فيها، والمدى الذي يمكن أن يصل إليه، الأمر الذي يخلق حالة دائمة من التوتر، وتصاعد المواجهات العسكرية بدون أن يؤدي ذلك إلى تغييرات دراماتيكية. وهذا هو مضمون ومعنى "التوازن".

 

Email