لقد عملت المتغيرات التي شهدها العالم في العشرين سنة الأخيرة، على حدوث جملة من ردود أفعال ومؤثرات على مجتمعنا العربي المعاصر، سواء في فئاته الاجتماعية أو نخبه المثقفة والمهنية، أو حتى على قياداته السياسية..
فسرعة المؤثرات قد أنتجت تداعيات لا حصر لها في ظل معطيات لم تكن موجودة سابقاً، فجاءت ردود الأفعال مؤثرة ومأساوية حقاً، ولكنها فاعلة في أكثر من بلد عربي! وعليه، فقد باتت مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى ثورة نقدية في التفكير، في إطار المشروع النهضوي المعاصر في تجربته التاريخية الثانية، إن نجحت في فهم ما يريده الناس ورسم ما يتطلعون إليه.
إننا نحتاج للبحث عن ديالكتيكات جديدة، تحاول أن توازن بين مختلف الأضداد السياسية القائمة والتي سيهدأ غليانها بعد زمن..
كما أن الحاجة ماسة لتأسيس عقد اجتماعي قوي بين قوى المثقفين وبين القادة السياسيين، من أجل خلق إمكانات جديدة للحياة العربية المقبلة، التي لا بد أن تحكمها دساتير مدنية محترمة، تتضمن طبيعة العلاقة بين الدولة والمجتمع، من خلال الحقوق والواجبات وسيادة أركان المواطنة الحقيقية وبناء التمدن..
لقد طالت الثورة المعرفية جانبي العالم بين الشرق والغرب، وانعكست فجأة اتجاهاتها اليوم لتغدو المعادلة غير متكافئة بين الشمال والجنوب، من خلال المتغيرات الجديدة في السنوات العشر الأخيرة، وخصوصاً في محتويات وأوزان المفردات المتنوعة في المجتمعات، بكل ما يتم تبادله من الوسائل الثقافية والإعلامية والاقتصادية والتقنية، التي تعبر عن حالات مستحدثة من التطورات المذهلة، وخصوصاً في اللغة ووسائل الاتصال وقوى الإبداع والتجمعات والعمليات وطواقم العمل المنتج عبر القارات... الخ، مما أنتج مفاهيم جديدة للعمل والمصالح، والزمن والإبداع والمسافات والإنتاج، والحريات والإنسان والمرأة والطفولة، والإدارة والأفكار وتجديد التربويات ومناهج التعليم، وصنع القرار والقيادات وإدارة شؤون السلم والحرب، والصفوات النخبوية من الأنتلجنسيا الفاعلة، والتمايزات والتبادلات وشبكة المعلومات، ونسبية الأشياء، والبيئة والمعيشة والصحة، والتنظيم واستخدام الفضاء والذرة والبيولوجيا والجينات.. الخ، وغير ذلك كثير مما يمكن اعتباره جملة مقاييس ليست حضارية أساساً، بل ثقافية بالدرجة الأولى.
وعليه، نتساءل عن دور القوى العربية الفاعلة في التكامل الثقافي العربي إبان مرحلة العولمة التي بدأها العالم؟ وعن دور التنمية الثقافية والوعي الثقافي في تشكيل الهياكل المؤسسية في المجتمع أولاً، وفي بناء الوعي عند الإنسان ثانياً؟ وعلينا أن ندرك أن المصنفات الرائجة عربياً اليوم، بدءاً بما ينشر من كتب ومجلات وصحف وانتهاءً بما تشكله المؤسسات والمراكز والجامعات، ليست لها أي قيمة تذكر أو دور مؤثر في الثقافة العالمية المعاصرة أولاً، وليس لها أيضاً أي تأثير إيجابي في الحياة العربية المعاصرة.
إن المرء لينبهر جداً بحجم ما نشره العرب إبان القرن العشرين، ولكن - مع الأسف - لم يتطور، بدليل ما حدث من انتكاسات مرعبة عند الجيل الجديد، الذي أخذ يلتفت نحو الماضي ليجد فيه ضالته المؤقتة، ولينكر من خلاله كل متغيرات العصر ويتهمها بشتى التهم، كونه يجد نفسه دوماً على صواب وغيره على خطأ!
إن المطلوب عربياً هو حدوث ثورة نقدية لكل منتجات العرب الفكرية والثقافية، فيتم تفكيكها من أجل إعادة صياغتها وتركيبها من جديد، كأي متغيرات أخرى في المفاهيم والأدوات والأساليب، وحتى الأنظمة والعلاقات، ولتصبح المعرفة والمعلومات أول مصدر للقيمة، بدل تكريس الإنشائيات والكلام الفارغ!
إن ما تحتاجه الأجيال العربية الثلاثة القادمة، يكمن في تأسيس ذهنية جديدة تقبل حالات التغير في التفكير والوعي الجمعيين.. ذلك أن التطورات العلمية التقنية السريعة والمفاجئة، قد نقلت الإنسان في عموم الأرض إلى مصير مدهش مذهل..
ولم يزل أبناء مجتمعاتنا غير مدركين لما سيؤول إليه مصيرهم في ظل أوضاعهم الحالية، خصوصاً وأنهم يختلفون عن غيرهم، إذ يعدون من ضمن المجتمعات الثقيلة المغرقة بالترسبات والمواريث القديمة، التي لم تستطع أن تستجيب بسرعة لما يحدث في الثقافات الأخرى، وخصوصاً في الوعاء الثقافي العربي المحمل بمواريث كلاسيكية مترسبة في التفكير وكامنة بفعالية في الأذهان، ولم تزل بقاياها مطبقة على التفكير بكل الطوباويات والخيالات والأحلام الوردية!
إن تجارب العرب المتنوعة في القرنين الأخيرين، تبدو وكأنها تتراقص على نغمات متلاحقة ومتناسقة في ترويج كل ما في الثقافات الغربية الكبرى، وخصوصاً في تقليد الأفكار واستنساخ الأيديولوجيات وملاحقة الموديلات واستخدام التقنيات طوراً بعد آخر! وعلينا أن نرصد - مثلاً - جملة من المفاهيم والأيديولوجيات الغربية، التي قلدتها الثقافة السياسية العربية على امتداد القرن العشرين، بدءاً بـ"التعاونية" والداروينية والقومية والاشتراكية والماركسية والفاشية والنازية والوجودية وغيرها.. الخ. وإذا كان الأمر يقتصر على الإعجاب والاندهاش والتمثل على امتداد القرن التاسع عشر، فقد حدثت تمردات وديماغوجيات وازدواجيات وتناقضات مضحكة على امتداد القرن العشرين..
ولكن ربما يبدو الفرق واضحاً بين نهايات القرنين السابقين، فلقد برز عربياً بعض المثقفين العرب عند نهايات القرن التاسع عشر، تفوقوا بأعمالهم الكبرى على منتجات مؤسسات عربية بالكامل عند نهايات القرن العشرين.. ويكفي مقارنة ما أنجز من موسوعات ومعاجم وترجمات، قام بها أفراد بأنفسهم وبمفردهم قبل مائة سنة، بما تعجز عن فعله مؤسسات ثقافية عربية اليوم!
وأخيراً، لا بد أن نردد جميعاً بتفاؤل: متى يتحقق الحلم لبناء مستقبلنا التكاملي المنشود، من خلال توظيف مشروعنا النهضوي على ما تقدم ذكره من إرساء المرتكزات الحقيقية التي تحتاج إلى مجهودات مضاعفة ومتطلبات كبرى، في ظل واقع مرير كالذي نجتازه اليوم يقدّر فيه الجهلاء ويهجّر منه العلماء؟ ولا يتم التمييز فيه بين الأميين المتخلفين وبين المثقفين الحقيقيين!
هذا ما سيجيب عنه المستقبل من خلال ما ستفعله الأجيال العربية الثلاثة القادمة، وعندئذ سيصفق العقلاء قائلين: لقد انتهت المهزلة ومات العبث، وبدأت الحياة تشع بأبهى صورها!