الديمقراطية والدستور والاستفتاء.. وأشياء أخرى

فارق كبير بين المشهد الأول بعد الثورة الشعبية المصرية للاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي دعا إليه المجلس العسكري غير المنتخب، في ظل اختلاف النخبة السياسية على أيهما يكون أولاً؛ الانتخابات أم الدستور، والدعوة إلى التصويت بـ«نعم» من الإخوان والسلفيين، والتصويت بـ«لا» كما دعا التيار الليبرالي واليساري.

ورغم ذلك بزغ الأمل وساد التطلع فتحول المشهد بفضل الجيش والقضاة إلى عرس ديمقراطي.. وبين المشهد الثاني غداً بعد الانتخابات للاستفتاء على مشروع الدستور بدعوة من الرئيس المصري المنتخب، في ظل انقسام حاد حول الإعلان اللادستوري، ليس بين أطراف النخبة السياسية فقط، ولكن بين الشعب والشعب أيضاً، حيث الموالاة من الإخوان والسلفيين وغيرهم، في مواجهة دامية مع المعارضة وبقية القوى الشعبية، ليس في حالة خلاف فقط بل في حالة تصادم أيضاً، فتحول المشهد المفعم بالألم لصمت الرئيس إلى مأتم دستوري!

والأزمة التي تشهدها مصر الآن، تارة حول الشرعية وتارة باسم الشريعة، ليست مجرد أزمة سياسية، وإنما هي في حقيقتها أزمة مركبة نابعة من روافد عدة؛ أزمة ثقافية فكرية، وقانونية دستورية، وفقهية ودينية، وأخلاقية وسلوكية، تصب في النهاية في أزمة سياسية وثورية، تهدد بالتحول إلى أزمة وطنية، إذا لم تحل بالديمقراطية واحترام الإرادة الشعبية واحترام الدستور والقانون واستقلال القضاء.

ولا شك أن ترجمة الديمقراطية بأنها حكم الشعب للشعب بالشعب، تقتضي توفير الشروط الموضوعية لمشاركة كل مكونات الشعب بغير إقصاء في وضع الدستور، والرجوع إلى الشعب بغير تهميش، للموافقة بأسلوب الاستفتاء وبإشراف قضائي كامل وبضمانات الأمن والحيدة والنزاهة، وفي انتخاب نوابه بحرية اختيار واعية وواضحة دون ترهيب أو ترغيب، ومشاركة غالبية الشعب في وضع القوانين دون إخلال بحقوق الأقلية، ومتابعة الإعلام الحر بغير تهديد أو قمع.

وبينما يبدو «الاستفتاء الدستوري» وسيلة ديمقراطيةً، لاستطلاع رأي الشعب، إلى جانب رأي ممثليه في الجمعية التأسيسية، التي قد تحل إرادتها بغالبيتها محل إرادة الشعب، يعتقد فقهاء دستوريون كبار أن الاستفتاء سلاح خطير ذو حدين؛ إذ تختلف مشروعيته ومصداقيته في الدول الديمقراطية عنها في الدول اللاديمقراطية، ولا يكون الاستفتاء حراً حينما لا يكون باستطاعة الناخبين إلا تقبّل ما يُعرض عليهم في ظروفٍ يتعذَّر عليهم فيها أن يختاروا بحرية وإرادة حقيقية، فيؤدي إلى مزيد من الحكم المطلق باسم الديمقراطية أو الثورة أو الغالبية الشعبية المزعومة!

وإذا كانت كل الدساتير في مصر الملكية قد صدرت من دون استفتاء الشعب، وكل الدساتير في مصر الجمهورية قد صدرت باستفتاء الشعب، فلم نشهد في كل ما طرح على الشعب من استفتاءات في كل المجالات استفتاء واحداً تم رفضه، إما بالإرادة الغالبة للشعب فعلاً، وإما بالتزوير المبين للسلطة بكل اليقين!

ووفقاً لآخر طبعة من الإعلانات الدستورية المتوالية الصادرة عن رئاسة الجمهورية والمطعون على دستوريتها.. من المقرر أن يجري اليوم الاستفتاء القسري على مشروع الدستور الملتبس، النابع من جمعية تأسيسية غير متوازنة التمثيل ومطعون على دستوريتها أمام القضاء المعطل عن العمل، بفعل الحصار والترهيب من بعض السلفيين والإخوان المسلمين للمحكمة الدستورية العليا..

بينما يتعرض السياسيون والإعلاميون للتشويه وللتهديد المباشر بالملاحقة القضائية الكيدية، وبالحصار والترهيب المماثل لمدينة الإنتاج الإعلامي، وخطر المواجهات بين المظاهرات والمسيرات والاعتصامات من الموالاة والمعارضة يتصاعد، خاصة بعد هجوم ميليشيات الموالاة على خيام المعتصمين السلميين من المعارضة، واشتباكات دموية أمام قصر الاتحادية، ما هدد بالصدام الأهلي!

يجري هذا الاستفتاء على مشروع الدستور الذي لم ينضج بعد، والذي أقر بليل على عجل ـ بتسرع وليس بسرعة ـ لاستباق حكم المحكمة الدستورية العليا في مدى بطلان قانون تشكيل الجمعية التي أصدرته، في ظل انقسام شعبي غير مسبوق، ومواجهة بين الرئاسة والقوى السياسية، وأزمة سياسية خانقة بين الموالاة والمعارضة، وأجواء مشحونة بالغضب، وأحداث اتسمت بالعنف ونزف فيها الدم من الجميع، بما أنتج في النهاية أخطر أزمة مصرية بين الرئاسة والشعب، وبين الشعب والشعب وهذا هو الأخطر.

ومع ذلك فالمصريون اليوم سينقسمون من جديد بين مؤيد ورافض ومقاطع، وفي كل الأحوال فلست مع المقاطعة وإنما مع التصويت، ومن حق كل مواطن أن يقرر ما يراه الأصلح لمستقبل وطنه، سواء بنعم أو بلا، إذا كان الاستفتاء القسري أمراً واقعاً، ولتستمر المطالب الشعبية بالوسائل المشروعة القانونية والبرلمانية، لرفض ما هو مفروض بالأمر الواقع، لتعديل ما هو غير شرعي أو غير دستوري، بسلمية ومشروعية وبعيداً عن العنف الأهلي.

هناك بوابة عبور واحدة وواسعة وناجعة لتجاوز الأزمات وتحقيق الوحدة الوطنية والسلام الاجتماعي، هي بوابة العدالة بأبعادها المتعددة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتحقيق التنمية بأبعادها المتعددة، وصولاً إلى تحقيق تكافؤ الفرص لجميع المواطنين، في مجتمع المواطنة والعيش المشترك.

وفي النهاية.. لا قوة لوطن بلا وحدة الصف، ولا وحدة للصف بلا وحدة في الهدف، ولا وحدة في الهدف بلا توافق حول رؤية مشتركة، ولا توافق بلا حوار لحل الخلافات حول المبادئ والمصالح، ولا حوار إلا بين مختلفين لا بين متفقين، كما لا حوار يمكن أن يدور عن بعد، ولا بشروط مسبقة أو بفرض أمر واقع لا دستوري، ولا بغير مشاركة أطراف الخلاف الحقيقيين لعبور الأزمات..

وبالحوار الوطني الديمقراطي وبسيادة القانون واحترام الإرادة الشعبية الحقيقية، ودون تهميش أو إقصاء أو تمييز، ودون ظلم أو قهر أو قمع أو ترويع.. نستطيع أن نتطلع إلى المستقبل لنقيم مجتمع الكفاية والعدل، والحقوق والحريات، والواجبات والمسؤوليات، والحرية والكرامة، ويكون الدين لله والوطن للجميع.

 

الأكثر مشاركة