عندما قرأت كلام الفيلسوف الفرنسي إدغار موران بأن "الإنسان يطوي معه تاريخ الكون كله"، استحضرت على الفور كلام الشاعر العربي القديم أبي العلاء المعري:

وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر.

ولا يعني هذا التشابه، في النظرة إلى الإنسان، أن موران اطلع بالضرورة على رأي المعري أو تأثر به، ولكن ما قاله المعري كان سائداً في العصور القديمة ولم يتخل عنه المحدثون؛ وأعني به القول بمركزية الإنسان في هذا الكون. ولهذه المقولة وجوه مختلفة. أولها هو الوقوع في المنزع التشبيهي الذي يحمل الإنسان على خلع صفاته على العالم. وهي تعني أيضاً في حدها الأقصى أن العالم لم يخلق إلا من أجل الإنسان، وبذلك تتحول المركزية إلى نرجسية سافرة. هذه الأفكار حول مركزية الإنسان ونرجسيته، قد فقدت مصداقيتها مع الثورات العلمية والفكرية في غير مجال:

أولاً، في علوم الفلك والكونيات، حيث ثبت مع غاليليو وكوبرنيكوس وسواهما من العلماء، أن الأرض ليست ثابتة، بل هي مجرد كوكب يدور ويتحرك في فلكه أو مجرته كما تتحرك ملايين الكواكب والنجوم. ولا شك أن نسف مركزية الأرض قد زعزع مركزية الإنسان وما ترتب عليها من اعتقادات. ثانياً، في علوم الحياة، حيث برهنت نظرية التطور، التي صاغها دارون، على أن الكائنات الحية، بمختلف أنواعها وفصائلها، تشكل شجرة واحدة يتصل بعضها ببعض، وتتحدر من أصل واحد.

ثالثاً، في موازاة نظرية التطور، كانت تتشكل، مع ماركس، نظرية أخرى في مجال الاقتصاد، شكلت بدورها صفعة للذات المتعالية، بتأكيدها على أن البنى التحتية، من أنماط الإنتاج ووسائل العيش، إنما تؤثر في تكوين البنية الفوقية كما تتمثل في العقائد والفلسفات والقيم الخلقية... وقديماً قال ابن خلدون إن أخلاق الناس وعاداتهم هي بحسب نحلهم من المعاش، أي بحسب أنماط الإنتاج وطرقه. هنا أيضاً، لا يجدر بنا أن نغضب لكرامتنا الإنسانية. صحيح أن الإنسان يعرف نفسه من خلال الأفكار والمثل والمبادئ، ولكنه عندما يجدّ الجد نراه يدافع بشراسة عن مصالحه الحيوية ومنافعه المادية.

رابعاً، ثم أتى علم النفس التحليلي، مع فرويد، ليوجه طعنة قوية لمفهوم الإنسان سيد نفسه ومالك زمامه، بتبيانه أن هناك فاعلاً يلعب من وراء الذات الواعية، العاقلة، وعليها، هو اللاوعي بهواماته ودهاليزه وكوابيسه.

ثم توالت الطعنات مع الحفريات لتي شهدتها الفلسفة وعلوم اللغة والإنسان، والتي أمعنت، بتفكيكاتها، في فضح نوايا الذات ومزاعمها حول مركزيتها وتعاليها وسيادتها، إذ هي بيّنت أن اللغة تستخدم المتكلم كما يستخدمها، وأن المعنى يحجب ما يتأسس عليه من اللامعنى، وأن في كل ما نعنيه ونفكر فيه ونعرفه، جانباً معتماً يبقى خارج نطاق التفكير، وإلا كيف نفسر أن البشر تقودهم أقوالهم وأفعالهم إلى عكس ما يفكرون فيه أو ما يريدون؟

وها هي الحروب الأهلية في العالم الإسلامي، تقدم الشاهد البليغ والفاضح والمرعب. فالمستور والدفين والمطمور في أقاصي اللاوعي، ظهر على السطح خرائب وحرائق ومجازر، بقدر ما كشف أن المحرك للدعوات والسياسات والاستراتيجيات، ليس العقل والرشد والروية، وليس تدبير الشأن العام ورعاية مصالح الكافة، بل الذاكرة الموتورة والمفخخة. والحصيلة فتن تظهر فيها المجتمعات عارية، بكل أحشائها الأهلية والطائفية، التي تستعدي الآخر وتعمل على نبذه وإلغائه.

ماذا نفعل إزاء ما يحفل به المسرح الكوني من الاضطراب والعنف والخراب؟ هل العقل هو مجرد قشرة أو مجرد أداة لخدمة أهداف غير معقولة؟

لا يجدر بنا أن نبالغ في كلا الاتجاهين. أولاً من جهة السلب، كما يفعل الذين ينفون عن العقل قيمته وحجيته ومصداقيته، أو الذين يحملونه مسؤولية ما يحدث من أنظمة شمولية أو كوارث بيئية أو صنع أسلحة الدمار الشامل الفتاكة، لأننا إذ نفعل ذلك نغرق في التشاؤم واليأس، أو نرجع القهقرى لإحياء نزعات وميول معادية للعقل، أو ننزلق إلى متاهات العبث والعدمية حيث تتساوى الأشياء وتنعدم قيم الأعمال.

 وفي المقابل لا يجدر بنا أن نغالي على وجه الإيجاب، كما يفعل الذين ألّهوا العقل واتخذوه مبدأ مطلقاً أو نصبوه معياراً لا يقبل الجدل والمساءلة. فإذا كان الفكر الحديث قد انبجس وتشكل بالانقلاب على الفكر الديني بجانبه الغيبي والدغمائي، فإن التعامل مع العقل بمنطق ديني لاهوتي هو الذي أفضى إلى انفجار مشاريع التحديث والعقلنة.

لنعترف بأن للعقل محدوديته ونسبيته، دون أن يعني ذلك وضع ثمرات الحجاج العقلي والفحص النقدي والبحث العلمي، على قدم مساواة مع المعارف التي لا تستند إلى التجارب العلمية والأدلة العقلية.

فالنسبية تعني هنا أن منتجات العقل، من المفاهيم والنظريات أو من النماذج والمناهج، ليست مطلقة، بل تخضع للتعديل والتطوير أو للتجاوز والتغيير، بقدر ما تخضع للمساءلة والمناقشة والمداولة العلنية أو العقلانية، في الفضاء العمومي أو في المؤسسات الأكاديمية ومراكز البحث العلمي.

خلاصة القول من ذلك، هي التخلي عن عقلية اليقين والقبض والتحكم. فالعقل لا يقطع، سيما في مواجهة الواقع البشري. فلكل كائن سره أو لغزه، بل مقاومته، مما يجعله يستعصي على التفكيك، أكان ذرة أم مجرة، معدناً أم زهرة، فرداً أم جماعة. ولذا مهما حاولنا إخضاعه للعقلنة والأعلمة والبرمجة، لن نتمكن من اختزاله أو السيطرة عليه. قد نحدّ من مساوئه ومخاطره، كما يمكن توظيفه في جلب المنافع وتحسين الأحوال.

فالأمر هنا على عكس ما قرره الفيلسوف هيغل، أي ليس كل ما هو واقعي هو عقلاني. نحن إزاء لعبة حرة، مفتوحة، على ما هو غير متوقع أو غير معقول. وذلك هو شأن الإنسان في ما يخلقه وينشئه، فمخلوقاته تتعداه وقد تفلت من سيطرته، بقدر ما تكشف عجزه أو جهله.

من هنا فالمعقول والمشروع والمثمر والنافع، يحتاج إلى إعادة البناء بصورة دائمة. وذلك هو الرهان: أن نعمل بصورة متواصلة على لأم المعنى الذي لا نحسن سوى انتهاكه، أو نسعى إلى عقلنة ما يند عن العقلنة أو ترويض ما يشذ عن القاعدة.