الدستور المصري بين الشريعة والشرعية

وفقاً لآخر طبعة من الإعلانات الدستورية المتوالية المثيرة للانقسام في مصر، الصادرة عن رئاسة الجمهورية والمطعون على دستوريتها.. تبدأ اليوم الجولة الثانية من الاستفتاء القسري على مشروع الدستور الملتبس، النابع من جمعية تأسيسية غير متوازنة التمثيل، ومطعون على دستوريتها أمام القضاء المعطل عن العمل، بفعل الحصار والترهيب من بعض السلفيين والإخوان المسلمين، للمحكمة الدستورية العليا وللوسائل الإعلامية وللأحزاب السياسية!

وقد أظهرت نتائج الجولة الأولى من الاستفتاء القسري على مشروع الدستور المصري المثير للجدل، التي جرت بداية الأسبوع الماضي، عدة مؤشرات إيجابية وأخرى سلبية.. أولها حرص قيادة التيارين السياسيين المتصارعين على دعوة الشعب للمشاركة في التصويت، وتجلى ذلك في الإيجابية الشعبية بالإقبال الكثيف بالطوابير الطويلة أمام لجان الاقتراع، إلا أن من أتيح له التصويت لم يزد على 30% فقط من مجموع الناخبين المسجلين لأسباب تنظيمية!

وثانيها، أن النتائج النهائية لتلك الجولة أظهرت الانقسام الشعبي الكبير حول مشروع الدستور، مع الفارق الضئيل بين من قالوا «نعم» بنسبة 56.5%، ومن قالوا «لا» بنسبة 43.5%، بينما بلغ التصويت في العاصمة المصرية على الرفض 56.5% والقبول بنسبة 43.5%، في حين أظهر معظم نتائج المصريين في الخارج، خصوصاً في أوروبا وأميركا، وفي الإمارات والجزائر مثلاً، غلبة الرفض على القبول، مثلما ظهر العكس.

وثالثها، ما شاب عملية الاستفتاء من ملاحظات سلبية، تمثلت في استباق المعارضة لنتائج الجولة الأولى بالإعلان غير المبرر عن غلبة التصويت بـ«نعم»، وعن الكم الكبير بالمئات للشكاوى والطعون في سلامة العملية، سواء في نقص الإشراف القضائي، أو في البطاقات غير المختومة، أو في عدم توفير رقابة المنظمات الأهلية والإعلامية لمجريات عملية الاستفتاء!

ووسط التوقعات بأن تأتي نتيجة المرحلة الثانية بما يغير الصورة، إلا أنه سواء جاءت النتيجة بنعم أو بلا في الجولة الثانية، فلن تتغير الصورة كثيراً في ظل استمرار بقاء الفارق الضئيل بين لا ونعم، بما يكشف الانقسام الشعبي حول صيغة الدستور، والتي من المؤكد أنها تحمل كل مبررات الانقسام واستمرار الأزمة.. فهل يكون ذلك الفارق الضئيل رسالة كافية لكلا الطرفين المتنافسين لإعادة النظر لتصحيح الصيغة بالحوار لاحتواء الأزمة؟ أم أن هذا الفوز الهش، مع غياب فن القراءة السياسية لدى فريق المغالبة، سيزيد الانقسام حدة والأزمة اشتعالاً؟

ظني أن إصرار أي طرف فائز على تمرير الدستور الجديد قسراً بأغلبية ضئيلة، سواء بنعم أو بلا، فكرة قصيرة النظر. وبغير ثقافة ديمقراطية ودستورية وشرعية ووطنية، فمن غير المرجح أن تؤدي إلى لقاء في وسط الطريق، سواء على المدى القصير أو المتوسط، لإنهاء حالة الانقسام وتهدئة الأزمة التي تحولت إلى دموية في بعض الأوقات، والمرور بمصر من هذا المأزق الذي على وشك أن يعصف باستقرار البلاد.

وفي النهاية.. لا دولة بلا دستور، ولا دستور بلا دولة.. ولا مستقبل لدولة مع الانقسام الوطني بين السلطة والشعب أو بين الشعب والشعب، ولا مشروعية لدستور في غياب الشراكة الوطنية أو بغير رضى غالبية الشعب.. تلك هي الأضلاع الأربعة لصورة المشهد السياسي المصري، في معركة الدستور المشتعلة الآن بين التيارين الرئيسيين في «الموالاة» و«المعارضة»، بينما هناك أزمة ثقافة ديمقراطية في المعسكرين معاً، إلى جانب أزمة ثقافة دستورية في النظام ذاته!

فلا دولة في الواقع محددة الهوية اتساقاً مع التاريخ والجغرافيا، ولا محددة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، ولا محددة العلاقات بين السلطات الثلاث؛ تشريعية تشرع القوانين، وتنفيذية تطبق السياسات، وقضائية تصدر الأحكام لتفصل في المنازعات بين السلطات والمؤسسات والمواطنين، بغير قانون، ولا مشروعية لقانون بغير اتساق مع دستور شرعي.

ولا قيمة في الواقع لدستور بغير وجود في الواقع لدولة قانون، ولا وجود لدستور لا يستمد شرعيته من مشاركة كل مكونات الوطن في صياغته، ولا في غياب موافقة جل الغالبية الشعبية الكبرى على مواده، مع ملاحظة أن الفارق كبير بين الدستور الذي هو مظلة وطنية لكل المواطنين بما يتطلب التوافق، والقانون الذي تصدره الغالبية البسيطة بمنطق الأغلبية.

تدعي الموالاة من التيار الإسلامي السياسي، بأطيافه الإخوانية والسلفية، الحديث باسم شرعية الغالبية بالصندوق بينما انقلابها على الشرعية يجعل الشرعية الحقيقية في أزمة، وترفع شعار الدفاع عن الشريعة وكأنها في أزمة، وتدعو لإعلان الدولة الإسلامية، بينما إسلامية الغالبية الشعبية معلنة منذ 1500 عام، وليست بحاجة لإعلان في زمن الإخوان!

وتدعي «المعارضة» من التيار الشعبي الوطني، بأطيافه الليبرالية والقومية واليسارية، الحديث باسم الثورة وتسعى لاستعادة الثورة المخطوفة، بينما الثورة ذاتها في أزمة مراهقة، وترفع شعار الدفاع عن الديمقراطية التي تواجه أزمة ثقافة وأزمة تطبيق، وتدعو إلى إعلان ما يسمى بالدولة المدنية، التي لا مدلول دستورياً لها، والأقرب إلى الواقع وصفها بالدولة الديمقراطية.

وبهذا تبدو الأزمة التي تشهدها مصر الآن، تارة حول الشرعية وتارة باسم الشريعة، ليست مجرد أزمة سياسية، وإنما هي في حقيقتها أزمة مركبة نابعة من روافد عدة؛ أزمة ثقافية فكرية، وقانونية دستورية، وفقهية دينية، وأخلاقية وسلوكية، تصب في النهاية في أزمة سياسية وثورية، تهدد بالتحول إلى أزمة وطنية، إذا لم تحل بالديمقراطية واحترام الإرادة الشعبية، واحترام الدستور والقانون واستقلال القضاء.

ولن يمر الجميع من الأزمة، ما لم تدرك جميع التيارات الأربعة الأساسية، الإسلامية والليبرالية والقومية واليسارية، بالثقافة الوطنية والديمقراطية وبالشريعة والشرعية معاً، أن تياراً واحداً من بين التيارات المصرية، ليس بمقدوره لا عاجلاً ولا آجلاً إقصاء بقية التيارات والانفراد بحكم مصر، لأن مصر لن تحكم إلا بالشراكة الوطنية، سواء بقانون القوة أو بقوة القانون.