ما بني على باطل فهو باطل

ما زالت الأنظار العربية مركزة باهتمام وانتباه على القاهرة ودمشق، موزعة عيونها الحائرة ومشاعرها القلقة على المشهدين السوري والمصري، ليس فقط باعتبارهما يمثلان حجر الزاوية في الأمن القومي العربي، ولكن أيضا لأنه يتوقف على نتائج نهاية الأزمة التي تعصف بكل منهما، بوجهيها الدامي في سوريا والسياسي في مصر، العديد من التداعيات والمؤثرات العميقة على المشهد العربي كله.

وربما كنت، ولا أزال، أنظر بكل القلق إلى المشهدين، مع تشابه المقدمات واختلاف الاستجابات، وتباين الدرجات بين اللونين الأحمر الدامي بالاقتتال العسكري الآثم في سوريا، والبرتقالي المنذر بالاحمرار بالاقتتال السياسي الغاشم في مصر، من منظور واحد يراهما جبهتين لمؤامرة دولية واحدة، لإشعال حروب أهلية على عدة جبهات عربية وإسلامية تحت عنوان "الربيع العربي"، بينما يثبت للجميع أنه ما كان ربيعا ولا كان عربيا، بل غربيا أطلسيا! ربما كان أملا حقيقيا في التغيير، بانتفاضات شعبية تلقائية مبررة، لمواجهة أوضاع ظالمة اتسمت بالفساد والاستبداد، غير أنها بغياب الخبرة السياسية، وشيوع المراهقة الثورية، وانقسام القوى الوطنية والثورية، واختراق الساحة العربية بأصابع وأدوات الأجهزة الأجنبية، سمحت للأدوات المحلية من جماعات دينية ومنظمات مدنية، بركوب الموجة الثورية وتوجيهها إلى وجهة غير سلمية وغير ثورية ولا وطنية!

ولهذا، ما زالت الأزمات السياسية والاقتصادية والأمنية المتشابكة والمتشابهة، في ما عرف بـ"دول الربيع العربي" مستمرة. ومن هنا لا يزال الحديث مستمرا باهتمام أكبر عن الأزمة السياسية والاقتصادية المصرية المستمرة، بعناصرها المركبة ودوائرها المتداخلة وبمشاهدها المرتبكة، في ما يتعلق بأزمة الشرعية أو أزمة الشريعة، وخصوصا في ما يتصل بأزمة الدستور وأزمة الاستفتاء، باعتبار مصر هي الدولة العربية الكبرى.

وبينما أكتب يوم عيد النصر المصري على قوى العدوان الثلاثي الاستعماري عام 56، بوحدة وبمقاومة الجيش والشعب بقيادة الزعيم العربي خالد الذكر جمال عبد الناصر، بقيت مصر برصيدها التاريخي هي الأكثر تأثيرا باعتبارها القلب والعقل والدرع والسيف لأمتيها العربية والإسلامية، فإذا سلمت مصر سلم العرب والمسلمون، وإذا ضعفت مصر لا قدر الله، ضعفت الأمة كلها..

ولأننا نريد أن نرى مصر تنتصر على تحدياتها وتتجاوز أزماتها وتنجح في حل مشكلاتها وانقساماتها، لتستعيد ذاتها وعافيتها وتنميتها ودورها الطبيعي في وطنها العربي وأمتها الإسلامية ومحيطها الإفريقي والآسيوي، فليس لنا إلا الرأي والنقد، من موقع الانتماء لا من موقع الجفاء، ومن موقع المعارضة لا موقع الاعتراض، مع إدراك واضح بالفارق بين الرأي والقرار.

ولهذا، كتبت رأيي في الأسبوع الماضي حول الدستور المصري الجديد، وملابسات إعداده والاستفتاء عليه.. وما زال رأيي قائما، حيث إن احترام الإرادة الشعبية لا يعني القبول بدستور مليء بالعوار دون تصحيح، ولا بشرعية مجلس شورى يشرّع وهو مطعون على شرعيته ومنتخب بنسبة 7%!

وبعد قراءة صحيحة للأرقام ودلالاتها بما يشير إلى تراجع أعداد المصوتين في الاستفتاء الأخير على الدستور، عن أعداد المصوتين في الاستفتاء السابق على التعديلات الدستورية، بما يعكس تراجعا تدريجيا واضحا لشعبية الإخوان المسلمين، قلت: "ظني أن إصرار أي طرف على تمرير الدستور الجديد قسراً بأغلبية ضئيلة، رغم ما فيه من عوار، فكرة قصيرة النظر.. وبدون ثقافة ديمقراطية ودستورية وشرعية ووطنية...".. وما زال هذا الرأي قائما. و

يبقى السؤال مطروحا؛ هل تتقدم المخاطر الاقتصادية التي تواجه الوطن المصري فتدفع طرفي السلطة والمعارضة إلى التنازل المتبادل إلى لقاء في وسط الطريق لتجاوز الخطر وتعويم السفينة المصرية؟ وهل يكون ذلك الفارق الضئيل رسالة كافية لكلا الطرفين المتنافسين لإعادة النظر وتصحيح الصيغة الدستورية بالحوار الجاد لاحتواء الأزمة؟.. أم أن هذا الفوز الهش، مع غياب فن القراءة السياسية لدى فريق المغالبة، سيزيد الانقسام حدة والأزمة اشتعالاً؟!

من المؤكد أنه لن يمر الجميع من الأزمة، ما لم يدرك جميع التيارات الأربعة الأساسية (الإسلامية والليبرالية والقومية واليسارية)، أن تياراً واحداً ليس بمقدوره إقصاء بقية التيارات والانفراد بحكم مصر رغم الإرادة الشعبية، لأن مصر لن تحكم إلا بالشراكة الوطنية، سواء بقانون القوة أو بقوة القانون، أو بالشريعة والشرعية معاً..

وبمنطق الشريعة، فإن "ما بني على باطل يخالف إرادة الله فهو باطل".. وبمنطق الشرعية، فإن "ما بني على ما يخالف إرادة الشعب فهو باطل".. وبمنطق الوطنية التي تتعالى على الحزبية السياسية والمذهبية الدينية، لا بد أن يدرك الجميع أن مصرنا جميعا في خطر، وعلينا جميعا أن نتنادى إلى شراكة وطنية في صناعة القرار وتحمل الأعباء وإعادة البناء، ومن لم يقدم الآن مصلحة الوطن والشعب على مصلحة الجماعة أو الحزب، فهو باطل.

 

الأكثر مشاركة