حتى لا يتحول الربيع شتاءً

ت + ت - الحجم الطبيعي

عام يصل إلى نهاية أيامه فيحمل ملفاته العالقة ويمضي، وعام جديد يأتي ومع بداية أيامه يجد أمامه ذات الملفات.. بينما يجد العالم نفسه في ذات المكان، إن لم يكن قد تراجع إلى الخلف.. وما بين البداية والنهاية تمر الأيام والشهور والأعوام، بلا فواصل حقيقية ولا علامات مميزة، إلا بقدر ما نضعه نحن من فواصل بالأرقام لنعرف عدد السنين، أو ما نحققه فيها من إنجازات أو انتصارات، أو نواجهه من إخفاقات أو انكسارات.

هكذا تبدو العلاقة بين الإنسان والزمان والمكان، فالحقيقة أن الأعوام لا تمر بل نحن الذين نمر، فإما أن نقف موقف السكون في المكان بلا إنجاز حقيقي فتمر علينا الأيام، أو نكون في موقع الحركة ونتقدم للأمام، فنمر نحن على الأيام.. فالأيام كما الشهور والأعوام، لا تعرف بأرقامها بقدر ما تسمى بأحداثها الكبرى، بينما الأحداث تعرف بذاتها، تماما كما المدن تعرف بأعلامها فيما تعرف الأعلام بإبداعها وعطائها المتميز.

نهايات الأعوام الماضية حين تجتمع في ذات اللحظة مع بدايات الأعوام الآتية عند منتصف الليل، إذاً، ما هي إلا وقفات لازمة في محطات مسيرة الزمان وعلى مسارات حركة التاريخ، ربما لنلتقط مساحة استراحة لالتقاط الأنفاس اللاهثة، ولنقتنص مساحة فرحة حقيقية برحيل عام غائم، أو فرحة مصطنعة أملا بقدوم عام حاسم، وقفة لنرصد الحصاد ونقيّم الأداء، ونراجع المواقف ونتراجع عن المزالق، ولنعيد تحديد المسار وتحديد محطة الوصول.

لهذا يحتفل العالم بإطفاء الأنوار لدقائق، للسماح للعام الماضي بأن يمر حاملا معه كل الآلام متخفيا في جنح الظلام.. ويضيء الأنوار المبهرة ترحيبا بقدوم العام الجديد، مع الصلوات والدعوات المخلصة لله تعالى أن يجعله عام هزيمة لكل شر وانتصار لكل خير، عاما يسود فيه العدل ويبيد فيه الظلم، ويسطع فيه الحق ويزهق الباطل، وتشرق فيه شموس الحرية وتختفي منه كل صور العبودية والتبعية، ليحيا الإنسان تحت مظلة الكرامة الإنسانية.

ونحن في الوطن العربي حينما نقف مع أنفسنا في ما بين عامين، فإن لوقفتنا أبعادا ثلاثة؛ أولها ديني، وثانيها قومي، وثالثها إنساني.. دينيا كعرب مسيحيين هو احتفال بميلاد السيد المسيح عليه السلام، وكعرب مسلمين لا يكتمل إيماننا إلا بالإيمان بالرسالات السماوية الثلاث وبرسل الله الكرام موسى وعيسى ومحمد، عليهم الصلاة والسلام. نحتفل بميلاد سيدنا عيسى مثلما نحتفل بمولد سيدنا محمد خاتم الأنبياء، كما جاء في قوله تعالى عن المؤمنين ((كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله))، البقرة/ 28..

وقوميا، كعرب مسلمين ومسيحيين معا، نشعر بالفخر أن وطننا العربي مثلما كان مهد الحضارات الإنسانية العريقة في مصر والعراق والشام واليمن، كان أيضا مهبط الرسالات السماوية العظيمة؛ التوراة والإنجيل والقرآن الكريم، في سيناء المصرية، وفلسطين العربية، والجزيرة العربية.. كما نشعر بالفخر، حين يتذكر العالم أن ميلاد المسيح عليه السلام كان في مدينة "بيت لحم"، ليتذكر ضمير الغرب الغائب أن كنيسة المهد في بيت لحم وكنيسة القيامة في القدس، أسيرتان تحت سلطة الصهاينة المحتلين المغتصبين لأرض فلسطين.

وإنسانيا، فإن رسالاتنا السماوية موجهة للإنسانية كلها على امتدا العالم، نؤمن بالأخوة بين الأديان التي هي في الأصل دين واحد، لأنها من منبع واحد ولكل بني الإنسان.. وكقومية عربية، فإننا ندرك أن ما يجمعنا بالقوميات الأخرى هو الأخوة الإنسانية قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ))، سورة الحجرات.. ونحن كمواطنين في أي من دول الوطن العربي من خليجه إلى محيطه، تجمعنا الشراكة الوطنية مع كل المواطنين على اختلاف عقائدهم.

وإذا كنا في النهاية جزءا من كل، فإننا ننشغل بشؤون عالمنا ومحيطنا مثلما بأنفسنا، وإن كان انشغالنا بواقعنا هو الأولى. من هنا فإن ما يشغلنا عربيا هو ما نواجهه من قضايا ملحة في فلسطين، حيث الاحتلال الصهيوني المدعوم أمريكيا وغربيا، ما زال يشكل التهديد الأكبر والتحدي الأخطر لكل الوطن العربي بلا استثناء..

وما بتنا نعانيه من انقسامات وفتن ذاتية؛ طائفية ومذهبية وعرقية، بلغت حد الاقتتال الدامي بين أبناء الوطن الواحد، مثلما جرى في العراق والسودان واليمن، وبلغ حد المأساة في ليبيا، وهو في سوريا الآن يؤلم كل ضمير عربي، حيث بلغ حدا خطيرا يجعلنا أمام خيار الانهيار أو الانتحار، إذا استمرالاقتتال مشتعلا ولم يبادر المتقاتلون فوراً إلى وقف نزيف الدماء والاستجابة لنداء العقل والضمير ونداء السلام.

ولا يجري كل هذا من فراغ أو بغير هدف، فهناك مخططات أطلسية غربية تستهدف ضرب كل مراكز التهديد المحتملة لأمن الدولة الصهيونية العبرية، التي تشكل القاعدة الاستعمارية لتهديد كل الدول العربية وإخضاعها للمشاريع الاستعمارية الجديدة، لإعادجة تقسيمها ورسم خرائطها من جديد، ولا سبيل لها في ذلك إلا استغلال عناصر التنوع الديني والمذهبي والعرقي في هذا الوطن الكبير، لاستعماله عناصر اشتعال لفتن لا تتوقف بين أبناء الأمة الواحدة والوطن الواحد، لتفتيت المفتت وشغلهم بأنفسهم عن أعدائهم الحقيقيين.

ومن هنا نلحظ أنه كلما لاحت في الأفق بشارة أمل للنهضة في دولة عربية أو إسلامية، أو بشائر ربيع لشعب من الشعوب في وطننا العربي، إلا وتحركت أدوات الاستعمار الجديد المحلية التي تخترق مفاصلنا السياسية والاقتصادية والإعلامية بكل الوسائل، لإجهاض حركة الشعوب، وتحويل الربيع العربي إلى ربيع غربي، بفعل أسباب مقررة ومؤامرات مدبرة!

وهذا هو ما جرى على مدى العامين الماضيين، حيث أطل الربيع في العام 2011 في مواجهة الفساد والاستبداد، لتفعل العوامل المضادة لحركة الشعوب الخارجية والمحلية فعلها، ليتحول الربيع إلى خريف في العام 2012، لنجد أنفسنا في مواجهة استبداد وفساد من نوع جديد.. ولما كان الصراع بين الخير والشر على مدى الأعوام مستمرا، فلا ندري ما إذا كان العام الجديد 2013 سوف يعود ربيعا أم يتحول إلى شتاء قارس!

لكن المؤكد أنه العام الذي يمكن أن يشهد حسما للقضايا العالقة من العام الماضي، خاصة في مصر وسوريا، وسيشهد استمرار النضال الشعبي العربي في اتجاه تحقيق الحرية السياسية والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.. ودعونا ندعو الله أن يوحد القلوب على الحق والعدل والحرية في هذا العام، حتى يعود الربيع ربيعا!

 

Email