أشواك في بساتين الربيع

على مدى أكثر من عامين متابعة لأحداث الحراك الشعبي الذي شكل حالة ثورية سلمية هنا ودامية هناك لأسباب داخلية مبررة وبخطط خارجية مدبرة في دول ما يسمى " بالربيع العربي " التي تنوعت طبيعة تحدياتها واستجاباتها، واشتركت جميعها في سلبية تداعياتها بعد الثورة فأحالتها إلى فورة ركبت موجتها قوى إسلاموية إخوانية وسلفية، أغرقتها في أزمات دستورية واقتصادية وسياسية واجتماعية وأمنية خطيرة، بسبب سوء إدارة من تصدروا مشهد الثورة، وسوء إدارة سلطة ما بعد الفورة، لينقلب الربيع خريفا والحلم كابوسا لغياب الرؤية الواعية لدى الثوار، والوطنية لدى الجماعات الحزبية الحاكمة ركوبا على الموجة الثورية ، بما أحبط الآمال الشعبية العادلة في الحرية والتنمية والعدالة والكرامة ،لتنقلب الآمال في ثمار ما بعد التغيير آلاما بوخز " ألف جرح "، و ليحصد الشعب من الربيع أشواكه قبل وروده نتيجة تقدم الأولويات السياسية على الضرورات الاقتصادية والاجتماعية ، ولغياب الشراكة الوطنية وحضور المعاركة السياسية على السلطة.

ولا تختلف التجربة التونسية في ذلك عن التجربة المصرية، لافي المقدمات السلمية ولا في الأدوات الاسلاموية التقليدية ولا في النتائج الاقتصادية والسياسية المفلسة إلا قليلا، كما لا تختلف الحوادث الليبية عن الأحداث السورية لافي مقدماتها المأساوية والدامية بفتنة عسكرة الثورة، ولا في أدواتها الاسلاموية المتطرفة المدعومة بالتدخلات الأجنبية الإقليمية والدولية بحلف الناتو الاستعماري بدور خاص لفرنسا وتركيا ، ولا في نتائجها الأمنية والاقتصادية الكارثية.

وحدها التجربة اليمنية التي أخذت من كل تجربة سلمية أو دموية جانبا، ومن كل جماعة إسلاموية تقليدية أو متطرفة أو متخلفة جانبا، ومن تدخلات القوى الإقليمية والدولية لتقديم رافعة للخروج من الأزمة، لكن يبقى السؤال، وهل خرجت اليمن بهذا الحل من الأزمة أم مازالت غارقة فيها ؟، الذي خرج فقط هو الرئيس صالح، لكن بقيت الأزمة على حالها بل تفاقمت مع ارتفاع صيحات التطرف الزيدي الحوثي في الشمال، والتطرف الانفصالي الاشتراكي والقاعدي لأنصار الشريعة في الجنوب.

ليبقى أكثر من سؤال ماهي المقدمات التي أدت إلى الثورة ؟ وماهي النتائج التي أدت إلى الفورة ؟ وبحساب التكاليف والعوائد هل يمكننا القول بانقلاب الثورة إلى فوضى، ولكن أي فوضى؟

أم أن نظرية الفوضى الهدامة الصهيو أميركية ضمن مشروع تفكيك "الشرق الأوسط الكبير"، هي التي وجدت طريقها تحت علم الديمقراطية وحقوق الإنسان وباسم الثورة، استغلالا لمقدمات سيئة لأنظمة وطنية معادية لمشاريعها في المنطقة، لكنها كانت غير عادلة بشيوع الفساد والاستبداد، وباسم جديد جاذب هو "الربيع العربي" ، مجرب من قبل تحت عنوان "ربيع براغ" وفي أوروبا الشرقية، وفي الثورات الملونة، الوردية والبرتقالية في جورجيا وأوكرانيا بآسيا الوسطي ؟!

ربما، خصوصا مع ثبوت أن "الربيع العربي " لم يكن مفاجئا تماما لأصحاب فكرة " الفوضى الخلاقة " إلا فيمن ركبوا الموجة الثورية رغما عن حساباتها، وخروج "الفوضى الخلاقة " من السيطرة إلى خارج السيطرة، إلى الحد الذي حرقت فيه السفارة الأمريكية في " بني غازي الليبية " معقل ما سمي ب"الثورة"، وقتل فيها السفير الأميركي في مشهد مأساوي يماثل المشهد المأساوي لاغتيال الزعيم الليبي معمر القذافي في " سيرت "، بنفس العناصر الاسلاموية المتطرفة " الثورية "، وبنفس الأسلحة الأمريكية والفرنسية الأطلسية.

أما دليل الاثبات فواضح من هذه الوثيقة المنشورة على موقع ويكيلكس قبل بدايات الربيع، أرسلها السفير الأميركي في القاهرة فرانسيس ريتشارد دوني إلى وزارة الخارجية في واشنطن بتاريخ 6 مارس (آذار) 2006 تحت عنوان (سري)، في وقت كان فيه قادة أميركا يصفون مصر (بالدولة الصديقة والحليف الاستراتيجي )، تقول الوثيقة : «إن النظام المصري يتأهب للموت، وينبغي التعجيل بوفاته أو إنهاكه عبر إصابته بألف جرح، فلن يكون من الممكن إحراز تقدم " ديمقراطي" كبير طالما بقي الرئيس مبارك في منصبه، ومع هذا فإن حكمه الاستبدادي يوفر مساحة، ويعطينا وقتا لإعداد " المجتمع المدني " ومؤسسات الحكومة المصرية قبل رحيله، ويمكننا الضغط من أجل التغييرات التي ستؤدي حتما إلى الموت على طريقة " الألف جرح " لنظام مصر السلطوي، باعتماد سياسة "الخدعة الجماهيرية" بواسطة أصدقاء أميركا وحلفائها في مصر الذين ينبغي تكليفهم بترويج منظومة الأفكار الأميركية بشرط قبول هذه الأفكار وكأنها (أفكار مصرية) خالصة، باللقاءات والحديث مع الجماهير»..

وتضيف الوثيقة : «يتوجب العمل على تعديل قانون القضاء والصحافة والعقوبات والمجالس المحلية والشرطة وتقديم الدعم الفني للأحزاب السياسية عن طريق المعهد الديمقراطي الدولي، والمعهد الجمهوري الدولي (اللذان طردهما المجلس العسكري المصري حينما اكتشف دورهما الهدام )، وسوف تكون المؤسسة العسكرية المصري عبئا على خططنا في التغيير، ولكنهم لن ينخرطوا بشكل نشط إلا إذا تم تهديد مصالحهم الاقتصادية. ونتوقع أن تزداد شعبية الإخوان المسلمين لأنهم يقدمون خدمات اجتماعية لا تقدمها الحكومة المصرية». والغريب المريب هنا هو أن ذلك كله جرى في ظل علاقة أميركية وصداقة مع الرئيس السابق.

ترى ماذا يدبرون من مؤامرات في الخفاء للدول العربية والاسلامية "الصديقة والشريكة" ؟ وربما لا أستثني من ذلك تركيا عضو الناتو الاستعماري التي كانت قبل الربيع تتقرب إلى الدول العربية والاسلامية في الخليج والشام، ثم انقلبت مع بدايته إلى ذراع أطلسي لحملات الناتو بالأمس في ليبيا وحاليا بدور قاعدة التهديد لسوريا والعراق، وقاعدة للقوات الجوية والصواريخ الباتريوت وللدرع الصاروخي الأمريكي لتهديد الجيران في روسيا وإيران بوهم أنها "حليف استراتيجي " وعدتها واشنطن بالهيمنة على المنطقة السنية في إعادة "للعثمانية الجديدة" التي تراود أحلام أوغلو وأردوغان !