كان لمسلسل الأزمات الذي تفتعله السلطة في العراق، أن يجد طريقاً له مع نهاية العام 2012، كي يبدأ الناس بالتحرك وهم في مخاض صعب بعد قرابة عشر سنوات على الاحتلال، وما سمي بالعملية السياسية التي جاءت بالمحاصصات، بما فيها إصدار دستور كسيح، وتكريس بعض بنوده التي طعنت الوحدة الوطنية باعتماد "المكونات" بديلاً عن المواطنين، وثمة أجندات جعلت بعضهم قادة، وهم لا يعرفون كيف يحكمون، بتقديم أحزابهم وطوائفهم ومللهم وطقوسهم، على وطنهم وترابهم وأهلهم.
إن "المشكلة" اليوم ليست - كما يريد أن يصورها الديماغوجيون - لأسباب طبيعية مثل غرق عاصمة جراء سيول أمطار، أو كونها أزمة مفتعلة ضد وزير، أو ملاحقة مسؤول كبير بالأحذية، أو مصادمة حكومة إقليم! كما أنها ليست مختزلة بمرض رئيس دولة، أو هروب نائبه، أو مسرحية نهب صفقة عسكرية..
إنها مشكلة أعمق من ذلك بكثير، مشكلة نظام حكم لا يؤمن بأية شراكة سياسية ولا بأية معايشة اجتماعية، أوصلت تشرذم العراقيين إلى أدنى درجات التعاسة.. مع تفاقم أمراض ثقافة ديماغوجية تعلن عكس ما تبطن، وتتعامل مع الواقع بعدة وجوه..
مع مشكلة نهب منظم للمليارات من موارد البلاد والعباد، من خلال عقود وصفقات وهمية.. ومأساة تحزبات مكروهة مفضوحة، لأناس لا يؤمنون بوحدة بلادهم.. فالمؤمن بالعراق عليه أن لا يفرق بين شماله وجنوبه وبين شرقه أو غربه.. وأن لا يقدّس مدينة أو منطقة على حساب أخرى، ولا يميز بين الناس بسبب مللهم ونحلهم وأديانهم أو أعراقهم.
معضلة أخرى لأولئك الخواص والعوام، الذين أعمتهم نوازعهم عن قول كلمة حق ورؤية صواب.. وسكوتهم المقصود إزاء التفرقة والتهميش والإقصاء، لكنهم يدافعون دفاعاً مبطناً عن حالات الظلم والثأر والغدر والقتل.. وصمتهم إزاء شرعنة الباطل حقاً مكتسباً ضد العراقيين.. وتمثيلهم دور المعارض لأمور تافهة، ولكنهم لا يريدون إلا إبقاء الوضع على ما هو عليه، كونه يمثل ما يعتقدون به.
إن احتجاجات العراقيين اليوم في الموصل والأنبار وأماكن أخرى، تأتي ضمن هذا المخاض الداخلي الصعب برفض كل الممارسات الجائرة، وبطبيعة الحال فإنها تتأثر بما يحصل في المحيط العربي من ثورات شعبية حقيقية، لا فقاعات هوائية كما وصفها بعض الأغبياء، خصوصاً وأن هناك افتراقاً بين الرسمي والشعبي في العراق إزاء ما يحدث عربيا، وأن التخندقات العراقية تبدو طائفية ومفضوحة، خلقتها احزاب طائفية وتحالفات إقليمية! ومن الطبيعي أن تكون ردود الفعل وطنية إذا كانت السياسة طائفية، والمواقف طائفية، والقرارات طائفية، والأمزجة طائفية، والاعتقالات طائفية، والتعيينات طائفية.. الخ.
إنني واثق من أن العراقيين اليوم يريدون حكماً مدنياً عادلًا، وحكومة مركزية تبتعد عن خلق المشكلات وصناعة الأزمات، وتقترب من كل الناس وتكون في خدمتهم، تمنحهم حقوقهم وتبعد عنهم الظلم والأذى، وتؤمن بالشراكة الحقيقية بعيداً عن العنجهية الأحادية.. مطلوب ثورة اجتماعية وطنية تؤسس للعراقيين مستقبلًا جديداً، وتخرجهم من ظلمات الانقسامات والكراهية إلى حياة العصر.. مطلوبة هي الوطنية العراقية بأروع صورها الديمقراطية.
وتعالوا أسألكم، أيها السياسيون، ما الذي قدمتموه إلى كل العراقيين؟ أتدرون كم خسر العراق في عشر سنوات؟ لماذا لم تحاسبوا أنفاركم المتلبسين بكل الجرائم وأصناف الفساد؟ لماذا لم تحققوا مع الحيتان الكبار الذين بلعوا ولم يشبعوا حتى الآن وفضائحهم ملأت الدنيا؟ لماذا سياسة اصطناع الأزمات السياسية التافهة على حساب القضايا الحقيقية التي يحتاجها الناس؟ لماذا تفرقون بين العراقيين وتكيلون بألف مكيال حسب مبدأ المحاصصة الذي يعتبره كل الشرفاء سببا في الخراب؟
تتشدقون بالشراكة وأنتم أعتى المناوئين لمن يشارككم، ليس في الحكم فحسب بل في التعايش والحياة؟! انكم تتفنون في المماطلة وتبديل الأقنعة وتلوين وجوهكم بالألوان الفاقعة مرة والباهتة مرات.. لماذا مارستم الاجتثاث ضمن معايير مزدوجة وعلى قواعد طائفية مقيتة؟ وأنتم تدركون أن القديم لا يرجع أبدا، وأن الماضي لا يعيد نفسه!
إن سنة 2013 حبلى بأحداث ووقائع، فالعراقيون لم تعد لهم القدرة على أن يبقوا مفترقين تحت حراب الطائفيين والمارقين والسارقين، وإن الغاية الحقيقية تتمثل في العودة إلى خيمة وطن عاش مذبوحا ينزف طويلا..
إن المطلوب اليوم هو تغيير جاد وحقيقي، والبحث عن دستور وطني مدني جديد، في ظل ديمقراطية سياسية حقيقية، بعيدا عن المحاصصات الطائفية والجهوية.. ومطلوب اليوم محاسبة كل المتورطين في الجرائم وأعمال الفساد وأصحاب العقود والصفقات، بل ومحاسبة الحكومة على خطاياها... مطلوب إنقاذ العراقيين من أوضاعهم الصعبة، وبناء خدمات متطورة للإنسان العراقي.. وإن لم يتحقق ذلك قبل فوات الأوان، فسوف تجتاح الثورة أصقاع كل العراق.