تشهد القارة الإفريقية في الوقت الراهن تطورات وأحداثا، تشير إلى أن السياسة الفرنسية في إفريقيا تواجه محنة، خاصة وأنها تحدث في دول ضمن مناطق النفوذ التقليدي لفرنسا. ففي مالي امتد نفوذ تنظيمات أصولية موالية لتنظيم القاعدة، وتقف فرنسا عاجزة عن وقف هذا الامتداد، وأصبح الحل الوحيد أمامها هو أن تطلب دعم الجزائر.
وهي دولة ليست من تلك التي تعودت فرنسا على التنسيق معها في ما يتعلق بسياستها الإفريقية، الأمر الذي يعني أن تحولا نوعيا طرأ على السياسة الإفريقية لفرنسا، خاصة وأن الجزائر كانت على الدوام تقف في المحور المناوئ للموقف الفرنسي في أي أزمة أو قضية إفريقية. وهذا التحول النوعي يؤكد أن لجوء فرنسا إلى طلب المساعدة من الجزائر، يعني أنها وجدت نفسها في موقف حرج، وأن مصالحها تتهدد فعليا في منطقة الساحل الإفريقي حيث تقع مالي.
وفي إفريقيا الوسطى، وهي من مناطق النفوذ الفرنسية التقليدية، هناك حركة تمرد يقودها تحالف سيليكا في مواجهة نظام الرئيس فرانسوا بوزيزي، وقد استولى هذا التحالف مؤخرا على مدن مهمة بما فيها كوانغو جنوبي مدينة بامباري، التي تعد ثانية كبرى مدن البلاد أهمية من الناحية الاقتصادية.
والوضع في إفريقيا الوسطى دفع دول إفريقية من التي لديها علاقات تقليدية بفرنسا، وعلى رأسها الغابون وتشاد، إلى إرسال مئات الجنود الإضافيين إلى العاصمة بانغي لحمايتها من أي هجوم محتمل من المتمردين. وكل ذلك جاء في الوقت الذي كان المجتمع الإفريقي ينتظر بدء جولة من المفاوضات بين نظام الرئيس بوزيزي والمتمردين في ليبرفيل عاصمة الغابون.
والتي اسفرت مؤخرا عن اتفاق لتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم الجميع، بمن فيهم تحالف سيليكا الذي يقول إنه حمل السلاح لفرض تطبيق اتفاقين للسلام وقع عامي 2007 و2011.
ومهما كانت أسباب التطورات في أفريقيا الوسطى وما سوف تنتهي إليه، فإنها تضيف إلى محنة السياسة الفرنسية في إفريقيا، خاصة وأنه كانت هناك مطالبات بالتدخل في الأحداث حتى لا تنتهي بما يؤثر على مصالحها، أو على الأقل لحماية رعاياها هناك. وهناك من قال إن فرنسا نفسها فوجئت بتطورات الأحداث، الأمر الذي لم يمكنها من التدخل في الوقت المناسب، والمفاجأة في حد ذاتها تعني أن السياسة الفرنسية في إفريقيا تواجه محنة كبيرة.
وكل ذلك يضاف إلى انتشار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، في منطقة الساحل الإفريقي، وهي تضم دولا تعد حليفة تقليديا لفرنسا وتجمعها بها معاهدات للتعاون العسكري، وهو ما يسبب حرجا للسياسة الفرنسية في إفريقيا، وهو ما يجعل فرنسا تجد نفسها في وضع حرج تطلب تدخلها العسكري المباشر للتصدي لخطر تنظيم القاعدة هناك.
وهذه المحنة التي تواجه السياسة الفرنسية في إفريقيا، لا يمكن عزلها عن التوجه الأنجلو ساكسونى الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة على إفريقيا، والتي أصبحت تتدخل في قضايا إفريقية متعددة بصورة منفردة، خارج التنسيق مع الدول الغربية الأخرى المتحالفة معها، خاصة في إطار حلف شمال الأطلسي، وعلى رأس هذه القضايا الصومال ومالي التي تقود الولايات المتحدة حاليا جهودا داخل مجلس الأمن وخارجه، من أجل وضع حد لامتداد نفوذ تنظيم القاعدة فيها.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أعلن منذ فترة عن انتهاء "إفريقيا الفرنسية"، ودعا إلى إقامة علاقات بين فرنسا وإفريقيا قوامها "الصدق". لكن تسارع الأحداث، خاصة في مالي، يبدو أنه قلب هذه السياسة رأسا على عقب، وربما أعادها إلى ما يشبه السياسة الفرنسية في عهود الاستعمار المباشر.
والمحنة الحقيقية التي تواجهها فرنسا، هي أنها أصبحت مجبرة على التنسيق مع قوى كانت من قبل منافسة لها على النفوذ في إفريقيا، وإن كنا قد ذكرنا الجزائر من قبل، فإن الولايات المتحدة كانت منافسا كبيرا لفرنسا حتى خلال الحرب الباردة، بل كان هناك تقاسم للنفوذ بين الجانبين، والآن أصبح على فرنسا أن تقبل بأن تكون جزءا من الاستراتيجية الأمريكية في إفريقيا.
ذلك أنها أجبرت على هذا الأمر في أكثر من قضية، خاصة ما يتعلق بمواجهة الجماعات الإسلامية الأصولية في إفريقيا. وحتى لو حافظت الولايات المتحدة على المصالح الفرنسية، فإن وضع فرنسا في إفريقيا الآن أصبح يواجه محنة، حتى وإن حاول الرئيس الفرنسي أن يظهر عكس ذلك في زيارته الأخيرة للقارة السمراء.
فهل يكون التدخل العسكري الفرنسي المباشر في مالي، محاولة للخروج من محاولات الهيمنة الأمريكية في مناطق النفوذ الفرنسية في القارة، أم أنها مجرد "خروج عن النص" لفترة زمنية محدودة ودور محدد سلفا، وربما متفق عليه؟