خمسون سنة مرت على مجتمعاتنا، وهي تعلن عن عظمتها من قبل أغلب زعمائها المستبدين ومسؤوليها المنافقين، والناس تتوهّم الأخيلة واقعا، والأحلام حقيقة.. خمسون سنة مرت وهم يتنطعّون باسم الوطنية والقومية والشعبية والوحدوية والإخوانية.. إلخ، وكلها كانت مزيفة على أشدّ ما يكون الزيف! خمسون سنة مرّت وهم يتفاخرون بعروبتهم وأمجادها، وفجأة تصبح "العروبة" عندهم وسخة وقذرة، ولكنها منهم جميعاً براء!

إننا نعيش اليوم إزاء أزمة ما بعد سقوطهم ومخاض التعايش الصعب، بدءاً برزايا التربية والتعليم، وانتقالاً إلى رسوخ القيم التاريخية السالبة والتقاليد الجمعية العقيمة، وصولاً إلى سيادة مفاهيم العنف والكراهية وشعارات الانقسام ونشر الخرافات والأوهام.. إلخ. السؤال: ما تأثير تلك الافتراقات على مجتمعاتنا؟

نجد اليوم توظيفا للكراهية والأحقاد بين مكان وآخر، وتحقير مدينة لرفع شأن أخرى! خمسون سنة مرت على مجتمعاتنا وقد شهدت مختلف البدائل الصعبة، جراء الانقسامات الاجتماعية التي أخفوها تحت أحزمة الصراعات السياسية والإيديولوجية، فكانت التظاهرات الشوارعية، وكانت المفبركات الإعلامية، والأكاذيب الحزبية، والانقلابات العسكرية، وكان الاستحواذ على السلطة بأية وسيلة، وكانت الصراعات الدموية وسحل الناس والتشفي بالقتل والتعذيب.. أ

و ما حدث لآخرين من مآس داخل زنازين سجون الأنظمة العربية، أو فرض الإقامة الجبرية عليهم في أماكن خاصة تحت الأرض لعشرات السنين، أو رمي المناضلين من الطائرات أحياء في البراري، أو إعدام قياديين بأيدي رفاقهم، أو طغيان قائد قسى على شعبه حتى وصفه بالجرذان!

خمسون سنة والكل يكذب على نفسه قبل أن يكذب على الآخرين! إن مجتمعاتنا إن أحبّت أحدا تمنحه التقديس والتأليه، وإن كرهت أحدا أمطرته باللعنات وبأقذع الشتائم والكلمات! فضلاً عن زعماء مستبدين همجيين، جاؤوا من بيئات مقفلة وبدائية وطائفية مغلقة، تحمل الكراهية والأحقاد ضد عموم المجتمع.

أناس في مجتمعاتنا ما أسرعهم عاطفيا وسيكولوجيا في تبرير الأخطاء والفواحش وحتى الجرائم، وأناس غزاهم التعصب والتشدّد في أمور عفا عليها الزمن، وآخرون يؤمنون بالفردية لا بالروح الجماعية، وغيرهم ليس لهم إلا التعميمات والنصوص من دون أي إدراك جمعي لما تفعله بالناس، ونزعات طوائفية هتكت بنية مجتمعاتنا ومزقتها! وإلقاء التهم المريبة للأفعال الخسيسة على الرعاع، وكأن هؤلاء لا يمتون بصلة إلى المجتمع، ولا يحسب فعلهم باسم الجميع.. إنه انعكاس حقيقي لأمراض تاريخية، وليس تمثيلاً لكل المجتمع.. ما أكثر المسوغات عند البعض، وما أكثر الانحيازات عند آخرين!

إن خمسين سنة مضت كانت كافية لخلق تناقضات رهيبة؛ هروب جمعي "جغرافيا" نحو الغرب (الكافر) بأية وسيلة كي يتخلصوا، وهروب "تاريخي" نحو الماضي لاستعادة مجده "الزاهر" كما يتخيلون! ومن دون أي مشروع متمدن في مثل هذا الزمن (المعاصر).

خمسون سنة والناس تبتعد عن الانسجام والتفاهم.. وولادة انشقاقات حزبية، وانشطارات سياسية، وخيانات جماعية، ومؤامرات خفية.. فوجدنا أناساً ولاؤهم لمن يرهبهم، وإن سقط انقلبوا عليه بفظاعة لا توصف، مع استفحال تناقضات عميقة! وأناساً يترصدون أبناء المجتمع على أقل الأخطاء، فيضخمونها لينكلوا بهم تنكيلاً مريعاً، وإن زلّ لسان أحدهم وخالفهم، قسوا عليه بشدة! وإن لم يكن من دينهم أو ملتهم ومذهبهم، دارت عليه الدوائر وأهين علناً وأقصي سراً! يشتمون ويكفرون حتى في أرق حالاتهم وأبهى لطفهم.

لم يعرفوا لغة التسامح والحبّ، فالمسامح عندهم جبان غير كريم، والمحبة لديهم مصلحة ذات! إن احتقرهم وبطش بهم مستبد طائش أو زعيم مخبول، هرجوا ورقصوا أمامه وغنوا له وكتبوا عنه الأشعار ومدحه الكتّاب المرتزقون وغدا ربّهم الأعظم، وإن سالمهم وعاملهم بلطف وكياسة وصموه بالضعف وشبهوه بالتافه الضعيف! وكل شيء يغفر للإخوة الأعداء من هذا القبيل في مجتمعاتنا، ولكن أن يقوم أحدهم بإيذاء أخيه سّراً، وسحقه أو جعل رقبته تحت سكين المقصلة، بكتابة التقارير الحزبية وجعل نفسه مخبرا سريا وعميل أجهزة مخابراتية ليفتك بالناس بالتهم الجاهزة، فهذا ما لم تألفه الأخلاق أبدا، كما جرى في أغلب البلدان العربية منذ نصف قرن!

هذه "الحالة" التي يدركها ويعرفها الجميع لزمن مضى، لا تقارن مع حالات الطيبة والكرم وحسن الملقى وعظمة التصرفات، لجماعات أصيلة هنا أو نخب رائعة هناك.. نعم، لا تقارن نسبتها لملايين من أناس طيبين متسامحين ومنسجمين، ليس في قلوبهم مرض من قسمات مجتمعاتنا، مع حجم المأساة التي حملها آخرون من التافهين والساقطين والطفيليين والقتلة والشبيحة والمرتزقة والخاطفين، ووعاظ السلاطين والمنافقين والجواسيس والمخابراتيين، حتى على أهلهم وأزواجهم والعياذ بالله! ومن المهرجين والأدعياء والمرتشين والفاسدين، الذين تكاثروا بشكل لا يمكن تخيله!

لماذا؟ هذا زمن يعّبر عن مرحلة أخصبتها أمراض التاريخ وطفيليات الجغرافيا وقسوة المستبدين! إننا بحاجة ماسة إلى ثورة تغيير عربية أخلاقية حقيقية، في القيم والمعاني والتفكير المدني الجمعي، ليستقيم الحال.