ذكرى 25 يناير.. مشهدان مختلفان

ت + ت - الحجم الطبيعي

في التاريخ المصري القريب أكثر من مشهد قد يتشابه مع ما نراه اليوم من مشاهد، وقد يتكرر، أو يشكل المشهد ذاته ولكن بصورة عكسية، وأمام ما نشهده الآن مشاهد مصرية سياسية وأمنية واقتصادية واجتماعية مشحونة ومتفجرة ودامية في القاهرة والإسكندرية والمنصورة ومدن القناة الثلاث، بتداعيات الذكرى الثانية لثورة 25 يناير الشعبية يوم الجمعة الماضي..

وبينما دعت قوى المعارضة اليوم الجمعة لمليونية شعبية احتجاجية بميدان التحرير، مواصلة لأحداث جمعة الغضب، وجمعة الإصرار، وجمعة الرحيل، حيث كان يوم "الجمعة" يوماً رمزياً من كل أسبوع للحشد الجماهيري لمواصلة المطالبة بتحقيق أهداف الثورة التي لم يتحقق منها سوى استبدال رأس النظام الذي ينتمي للحزب الوطني المنحل بعد ثورة يناير برأس آخر ينتمي لجماعة الإخوان المسلمين المنحلة بعد ثورة يوليو!

يلح على ذاكرتي مشهد تاريخي مشرف يؤلمني أن أرى مثيله اليوم بصورة مقلوبة!

والمفارقة كان اليوم الجمعة. والتاريخ: 25 يناير. والعام: 1952.. والمكان: مبنى محافظة "الإسماعيلية" إحدى أهم مدن القنال الثلاث الباسلة "بورسعيد" و"السويس"، بكل الكفاح والنضال الشعبي في معاركها وانتصاراتها دفاعاً عن استقلال مصر ضد الاحتلال الإنجليزي، وعن إرادة وحرية وكرامة مصر ضد قوى العدوان الثلاثي الأنجلو فرنسي الصهيوني، ولتحرير الأرض المصرية من الاحتلال الصهيوني في حرب رمضان المجيدة.

والمشهد: هو التصدي البطولي لرجال الشرطة المصرية بقيادة اللواء أحمد رائف بعددهم القليل الذي لم يتجاوز 850 ضابطاً وجندياً ببنادقهم الخفيفة، لهجوم قوات الاحتلال بأعداد هائلة بلغت سبعة آلاف ضابط وجندي إنجليزي بعشرات الدبابات والمدرعات ومدافع الميدان لاقتحام مبني المحافظة، وإصرار رجال الشرطة على القتال حتى آخر رجل وآخر طلقة، ورفض الاستسلام للإنذار البريطاني بتسليم أسلحتهم. حتى نفدت ذخيرتهم بعد استشهاد 50 وجرح 80 ضابطاً وجندياً.

كان ذلك الحدث الوطني التاريخي المجيد هو الثمن الذي دفعته الشرطة المصرية عقاباً لها على حمايتها للفدائيين الوطنيين المصريين الذين يهاجمون قوات الاحتلال في القاعدة الإنجليزية لقنال السويس بعملياتهم الفدائية لإجبار الاحتلال على الرحيل، والتي شاركت فيها أطياف الشعب المصري السياسية المختلفة خصوصاً أبناء مدن القناة، بعد عزم رئيس الحكومة المصرية مصطفى النحاس على إلغاء معاهدة 36 في العام 1951.

وبعد قصف استعماري عنيف سالت معه الدماء الطاهرة لرجال الشرطة المصرية، وتهدمت جدران المبنى، أمر الجنرال الإنجليزي بوقف القصف، ووجه إنذاره الأخير لعلهم يستسلمون ويخرجون بغير سلاح رافعي الأيدي وإلا فسوف يواجهون قصفاً نيرانياً أشد، لكن المفاجأة التي أصابته بالدهشة كانت الرد من ضابط شاب صغير هو النقيب مصطفى رفعت الذي قال بصوت عالٍ وبكل شجاعة ورجولة: "سنقاتل ولن نسلم أبداً، ولن تتسلموا منا إلا جثثنا الهامدة".

هذا المشهد الدامي الذي حدث في 25 يناير 1952، هو الذي ترددت أصداؤه في أنحاء مصر وخرجت مظاهرات الغضب الشعبية في القاهرة صبيحة اليوم التالي تنديداً بالمذبحة البريطانية تضامناً مع شهداء الشرطة في الإسماعيلية، ليكبر الغضب الشعبي ويتفجر بركاناً بحريق القاهرة، وهو ما كان المقدمة الأولى لثورة الضباط الأحرار بالجيش بتأييد الشعب بعدها بشهور في الثالث والعشرين من يوليو من العام نفسه.

ذلك المشهد الوطني المشرف لضابط الشرطة المصرية في الإسماعيلية عام 1952 برفض الإنذار البريطاني بالاستسلام، والإصرار على القتال لمواجهة العدوان، كان هو المشهد الوطني المشرف ذاته لضابط شاب من الجيش المصري هو المقدم جمال عبدالناصر قائد ثورة 23 يوليو عام 52 والذي تكرر على منبر الجامع الأزهر، برفض الإنذار البريطاني الفرنسي.

ورفض الاستسلام لجحافل العدوان الثلاثي، والرد بثبات ورجولة بمقولته الخالدة "سنقاتل ولن نسلم أبداً، لقد فرض علينا القتال ولكن لن يوجد من يفرض علينا الاستسلام"!.. وقاومت بورسعيد مع الجيش ببسالة وانتصرت مصر.

كانت وحدة الشعب المصري مع أبنائه الضباط والجنود في الشرطة وفي الجيش، هي الثلاثية الذهبية التي كافحت وناضلت وضحت ودفعت الدماء وقدمت الشهداء دفاعاً ضد العدوان الاستعماري الخارجي.

وهذه الوحدة التي عبر عنها الشعب المصري سواء بتأييده للجيش في ثورة يوليو أو بتأييد الجيش للشعب في ثورة يناير كانت شرط انتصار الشعب في كل معاركه وفي إعلاء إرادته بانتصار ثوراته، ولهذا كان الطريق الوحيد أمام المتآمرين أعداء الوطن في الخارج بأدواتهم في الداخل لكسر إرادة هذا الشعب هو في الوقيعة بين الشعب والشرطة، وبين الشعب والجيش!

وكل الدلائل تؤكد أن الهدف من تحقيق ضرب الشرطة بالشعب أو العكس هو انهيار الأمن الداخلي وفتح الأبواب للفوضى الهدامة طبقاً للنظرية الصهيو أميركية، ومن ضرب الجيش بالشعب أو العكس هو انهيار الأمن الوطني وفتح الأبواب للتدخل الأجنبي انتقاماً من الجيش الذي انتصر يوماً ما على المستعمرين عام 56، وعلى القاعدة الاستعمارية الصهيونية عام 73، وذلك بحجة حماية حرية الملاحة في قناة السويس، خصوصاً إذا كانت هذه الأحداث المأساوية الدامية في تلك المنطقة الاستراتيجية الحساسة على امتداد القناة.

ومع إدراكي أن استنزاف قوة الجيش المصري خصوصاً هو الهدف، لهذا أخشى كثيراً من قصر النظر السياسي الذي يمكن أن يورط الجيش ليضعه في مواجهة الشعب الغاضب ـ أو يحمل الشرطة المصرية تسديد فواتير الإدارة السياسة الفاشلة في احتواء الأزمات وتصفية الاحتقانات وحل المشكلات الدستورية والقضائية والشعبية، فالحلول العسكرية لا تكون إلا في مواجهة العدو الخارجي، والحلول الأمنية ليست هي البديل عن الحلول السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

.. وبينما كان شريط ذلك المشهد التاريخي الأكثر مدعاة للفخر والأمل يمر على ذاكرتي كانت مشاهد أخرى في الإسماعيلية والسويس وبورسعيد في نشرات الأخبار أكثر مدعاة للأسى والألم تصدم عيني وتجرح فؤادي وتشرخ وجداني، حين رأيت المشاهد نفسها ولكن بصورة مقلوبة، حينما سالت الدماء المصرية في الشعب والجيش والشرطة بأيدي مصرية، وفرضت حالة الطوارئ وحظر التجول على مدن القناة.. وتلك هي ذروة المأساة، فليبك من أراد البكاء!

 

Email