يحذر بعض الغربيين من احتمالات مخاطر اندلاع حرائق وحروب في منطقتنا، وينذرون الناس من عواقبها وكوارثها، إذ لم يقتصر الأمر على سقوط أنظمة وتبديل قادة وزعماء.. بل العيش في ظلال حرب قد تشن، عندما يستوي آخر العنقود بين إسرائيل والولايات المتحدة ضد إيران. وهذا مجرد هذيان قصار النظر، أو ضلوعهم مع أنظمة سياسية جائرة لا يريدون أبداً أن تزيحها الشعوب المتحررة.

إن ما أنجزه العرب في ثوراتهم السياسية، يعد فعلاً وطنياً صرفاً بعيداً عن أية تدخلات أجنبية، ولم ينبثق من رحم مؤامرات خارجية. وعليه، فإن ما أنتجته الثورات يمتلك شرعياته السياسية بامتلاك القوة التاريخية الحقيقية، مقارنة بما كان يحدث إثر الانقلابات العسكرية، عندما يستحوذ نفر معدود من أعضاء قيادة الثورة على الحكم والشرعية، ويحيل البلاد والعباد إلى مجرد ثكنة عسكرية.. اليوم، لا مكان للاستبداد ولا لصناعة طغمة حزبية فاسدة، ولا للانفراد بصنع القرار..

اليوم لا يقبل الناس أن تضاع حقوقهم المشروعة، أو أن يركب رئيس أو حزب أو جماعة أو قيادة، أية ثورة لسرقة مكتسباتها. وأقول للبعض من الممالئين للأنظمة الحاكمة، عرباً وغربيين، إنكم تبشرون بالحروب الأهلية وبالمصير المشؤوم وتقللون من شأن التاريخ، بسبب قصر نظركم أو الخوف على مصالحكم.. إن كنتم تتخوفون من حكم هذا أو ذاك، فإنه لن يبقى في الحكم طويلاً، فلقد ولت استبدادات القرن العشرين نهائياً، ومجتمعاتنا دخلت مرحلة جديدة ربما ستبقى مشبعة بالفوضى حتى تستقر الأمور والأوضاع.. ولكن الحياة سوف تتقدم ولن تتراجع أبداً..

ثمة اتجاهات سياسية متعددة ومتنوعة تتحكم في حياتنا العربية اليوم، ونحن في مرحلة جديدة ولدت منذ سنتين، وعلينا أن نتعامل مع هذه الاتجاهات ضمن إطار المرحلة، بتفكير جديد وعقلية مغايرة مقارنة بما كنا عليه في الثلاثين سنة الماضية. لدينا ثلاثة اتجاهات رئيسية في المنظومة العربية التي باتت كتلة تبني أبعادها الجديدة في عالم اليوم: أولاً، بلدان تغيرت أنظمتها وتتبدل فيها الحياة في مخاضات صعبة، ولكنها متنوعة الأشكال؛ مثل تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا (وهي آخر العنقود في هذا الاتجاه)..

وثانياً، بلدان تنمو فيها التبدلات بشكل سلمي وطبيعي، كونها لم تمر بتجارب صعبة كالتي مرت بها البلدان الأخرى إبان القرن العشرين، كدول الخليج العربي، وقد كانت مستقرة منذ استقلالاتها الوطنية.. أما الاتجاه الثالث، فتمثله أنظمة تنتظر التغيير في السنوات المقبلة، بسبب أوضاعها المركبة وما تعانيه من خلل في دواخل مجتمعاتها، ممثل العراق ولبنان والسودان والجزائر، كونها تعاني من معضلات اجتماعية تعود إلى جذور نشأتها الأولى.

لم تعد الدول العربية كلها يلعب بمصيرها الآخرون كما لعبوا في الماضي، وأعتقد أن الثورات العربية اليوم قد منحت العرب قدراً من الإرادة والقدرة على صنع التاريخ، وهذا تجلّى بشكل كبير في وقوف الفلسطينيين مثلاً - وقفة قوية إزاء العدوان الإسرائيلي الماضي على غزة، وقد أجبروا إسرائيل على الرضوخ لمطالبهم. وعليه، فلا يمكن بعد اليوم أن تبقى الإرادة السياسية العربية مكبلة، لا بأيدي الصقور الإسرائيلية والأميركية الذين يحلمون بـ«إعادة نمذجة المنطقة من أجل إخضاعها لإرادتهم» - كما يتوهم باتريك سيل وأضرابه - ولا يمكن بعد اليوم أن تبقى المنظومة السياسية العربية مخترقة إقليمياً من قبل هذا الطرف أو ذاك، فالمواجهة غدت علنية، ولم يعد هناك أي مجال عمل للطوابير الخامسة والسادسة لفرض سطوتها أو قوتها أو أجندتها أو حتى إعلامها.

إن الثورات العربية لم تقتصر على نسف الأنظمة السياسية الجائرة، بل غيّرت العقلية السياسية العربية، كونها أزالت حاجز الخوف وجدار الرعب الذي كان يقوم بين الحاكم والمحكوم.. لم تعد الأمور كلها في قبضة زعيم أو قائد أو مجموعة أو نخبة أو حزب أو طائفة.. وما نشهده اليوم من فوضى أو صراعات داخلية، هو تعبير من هذا الطرف أو ذاك للاستحواذ على القوة أو لاحتكار السلطة.. ولكن لم يعد هناك أحد يخشى من أحد، كما تكشفت أو تعّرت كل الوجوه، فلم يعد هذا أو ذاك مقدساً أو معصوماً أو رمزاً أو مثالاً متطهراً.. الخ.

إن الحياة العربية اليوم بحاجة ماسة إلى القانون، بدءاً بالأساسي (الدستور) للتشريعات، وانتهاء بترسيخ القضاء والأمن والنظام.. وما نشهده اليوم من حراك ثوري عربي، هو امتداد لما كانت المرحلة قد بدأت به قبل سنتين، وسوف يستمر هذا الحراك مع تحرر إرادة العرب السياسية.

ورب سائل يسأل عن موجة الحكومات ذات الصبغة الدينية التي تحكم اليوم بعض دولنا العربية.. ولا أقول للمعترضين إلا القولة الفرنسية الشهيرة: «دعه يمضي.. دعه يمر».

إن التغيير ضرورة تاريخية ولا يمكننا إيقافه، وعلينا التعامل مع واقع جديد له مخاض صعب حقاً، ولكن ينبغي أن نتطلع إلى كيفية صنع المستقبل بدل التغني بالماضي، بعيداً عن هواجس الديماغوجيين النفعيين.