صناعة الصورة وعملية التثبيت والإقصاء

يتساءل الكثيرون عن واقعية وموضوعية مخرجات وسائل الإعلام، وإلى أي مدى تعكس الواقع كما هو أو تشكله وتبنيه و"تفبركه"، وفق أطر ومرجعيات واتفاقيات محددة. ففي بعض الأحيان يُقدم الحدث من زوايا مختلفة وبرؤى متناقضة، وكأن الأمر يتعلق بحدثين مختلفين تماماً.

تعامل وسائل الإعلام مع الكثير من القضايا والأحداث يثير عدة تساؤلات وملاحظات، من أهمها أن الإعلام بصفة عامة والصورة بصفة خاصة، أصبحا جزءاً لا يتجزأ من بعض القضايا والأزمات والحروب، وما قدمته وسائل الإعلام أثناء الاعتداء الصهيوني على غزة، وحرب العراق وأفغانستان وحروب وأزمات عدة أخرى في العالم، لا يخرج عن هذه القاعدة.

فالصورة في وسائل الإعلام تثير إشكالية التثبيت والإقصاء، حيث إن الأشياء التي تركز عليها الكاميرا تبقى عالقة في أذهان الجمهور وإدراكه ومخيلته، والأشياء التي تقصيها الصورة وتتخلى عنها تزول من إدراك الجمهور، وهذا يعني أن الصورة تستحضر الغائب وتُغّيب الحاضر. الصورة أصبحت سلعة في الصناعة الإعلامية.

وبدلاً من عكس الواقع وإثراء الحوار الديمقراطي، أصبحت وسيلة للتلاعب والفبركة وبناء الواقع حسب ما يريده أصحاب الإمبراطوريات الإعلامية. ومن هنا نلاحظ أنه في العديد من الأحيان، يتم التلاعب بالصور وإعادة تركيبها وإخراجها وإضافة أشياء كثيرة عليها، حتى تعكس إيماءات وإيحاءات معينة لا تعكس الواقع بالضرورة كما هو، وإنما تعكس واقعاً مختلفاً تماماً، وفق معايير تحددها الأبعاد الأيديولوجية والسياسية وأجندة المؤسسة الإعلامية.

في القرن الحادي والعشرين أصبحت وسائل إعلام كثيرة "تفبرك" الواقع، أكثر مما تقدمه وتنقله للجمهور كما هو، وأصبح الكلام عن الموضوعية والبراءة وتقديم الأحداث والحروب كما هي، يعتبر ضرباً من الخيال.

وبفضل المكانة الاستراتيجية التي تحتلها وسائل الإعلام في المجتمع، وقوتها في تشكيل الرأي العام وإخبار الجماهير بما يحدث ويجري من حولهم وفي العالم، أصبحت المؤسسات الإعلامية تستقطب اهتمام القوى الفاعلة؛ السياسية والاقتصادية والدينية وجماعات الضغط والمجتمع المدني، سواء محلياً أو دولياً. وهذه القوى تعمل جاهدة على تشكيل الوعي، وفق معايير ومقاييس تخدم وجهة نظرها ورؤيتها للأحداث وبذلك مصالحها.

فوسائل الإعلام في أي مجتمع لا يحركها المال فحسب، بل هناك قوى أخرى تتنافس للاستحواذ والسيطرة عليها، من أجل إعلاء كلمتها ووجهة نظرها وإيصالها للرأي العام، والقوى الاستراتيجية التي تشكل الرأي العام في أي مجتمع هي وسائل الإعلام. وحسب ثيودور أدورنو وماكس هوركهايمر، أصبحت الثقافة في القرن العشرين صناعة، مثلها مثل الصناعات الأخرى، تخضع لقانون العرض والطلب وقوانين السوق.

فالمنتجات الثقافية أصبحت منتجات معلبة، تُصنع وفق معايير الإنتاج المتسلسل ووفق أنماط معينة، تؤدي في النهاية إلى أحادية الأسلوب والمحتوى. وبذلك اختصرت الثقافة في التسلية والاستهلاك العابر، وأصبحت مرادفة للتلاعب بأذواق الأفراد وحسهم، وأفرغت من محتواها الحقيقي ومن بعدها الجمالي والإنساني.

وقد أفرزت العولمة الليبرالية تداعيات وانعكاسات كبيرة على معظم المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم، وأفرغتها من دور الرقابة والسلطة الرابعة. فالسلطة الحقيقية في المجتمع أصبحت في أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العالمية والشركات الكونية، يزيد حجمها الاقتصادي أحياناً على ميزانيات بعض الدول والحكومات.

وبذلك أصبحت وسائل الإعلام ذائعة الانتشار تتمركز أكثر فأكثر في أيدي شركات عملاقة، أصبحت بفضل التوسع الهائل والسريع في مجال تكنولوجيا الاتصال والمعلومات والمعرفة، تملك إمكانات وقدرات هائلة في جمع المعلومة ونقلها وتداولها في جميع أنحاء العالم، وبسرعة فائقة. فالثورة الرقمية قضت على الحدود الكلاسيكية لأشكال الاتصال التقليدية (الكتابة، الصوت، الصورة).

وفتحت المجال أمام الإنترنت والوسائط المتعددة والثورة الرقمية، التي جسدت مفهوم القرية العالمية في أرض الواقع. وبهذا أصبحت الاحتكارات الإعلامية العملاقة أو المجموعات الإعلامية، تهتم بمختلف أشكال المكتوب والمرئي والمسموع، وتستعمل قنوات متعددة ومتنوعة لبث ذلك ونشره؛ من صحف ومجلات وإذاعات وقنوات تلفزيونية وكوابل وبث فضائي وشبكات البث الرقمي عبر الألياف البصرية والإنترنت.

هكذا تضاف السلطات الإعلامية إلى السلطات الأوليغارشية التقليدية والرجعية الكلاسيكية، فتقوم معاً، وباسم حرية التعبير، بمهاجمة البرامج التي تدافع عن حقوق الأكثرية من السكان. تلك هي الواجهة الإعلامية للعولمة.

وقد تفاءل الكثيرون خيراً وظنوا أن ثورة المعلومات وتكنولوجيا الاتصال، ستردم الهوة بين الشمال والجنوب وبين الأغنياء والفقراء، وستؤدي إلى الديمقراطية وانتشار حرية التعبير وحرية الصحافة ومشاركة الجماهير في السوق الحرة للأفكار وفي الممارسة السياسية وصناعة القرار؛ لكن الواقع يفند ذلك تماماً، حيث إن ظاهرة الاغتراب والتهميش وانتشار ثقافة الاستلاب والاستهلاك أصبحت من مميزات الألفية الثالثة، سواء في الشمال أو الجنوب.

 

الأكثر مشاركة