هل كان ما جري في حاضرة الفاتيكان خلال الأيام القليلة المنصرفة عاصفة بالفعل؟ واقع الحال يشير إلى أن ذلك كذلك، فاستقالة البابا من مهامه الإدارية حدث لم يتكرر منذ نحو ستمائة عام، ولم يكن أحد من المتخصصين في شأن الفاتيكان يتوقعه.
لعل ما يهمنا أكثر في البابا القادم هو رؤيته وعلاقته بالعالمين العربي والإسلامي، خاصة وأن سنوات البابا بنديكتوس الثماني لم تكن فيها العلاقة مع الإسلام والمسلمين صفاء زلالا، رغم زيارته للمسجد الأزرق في تركيا مصليا هناك في خشوع.
لماذا يحظى البابا، أي بابا، دائما بهذا الاهتمام على الصعيد العالمي؟
يري عالم اللاهوت الكاثوليكي كاتب سيرة البابوات، جورج ويغل، أن نفوذ البابوية الحديثة وسحرها من المفاجآت، فعندما انتخب البابا ليون الثالث عشر عام 1878، وكان أول بابا منذ 1100 سنة لا يسيطر على أراض واسعة ذات سيادة معترف بها دوليا، ظن الكثيرون أن البابوية باتت مفارقة تاريخية بلا حول ولا قوة، غير أن ليون أرسى قواعد البابوية الجديدة باعتبارها مركزا يتمتع بسلطة إقناع معنوي..
وقام البابا بوحنا بولس الثاني الذي انتخب بعد قرن (1978) على انتخاب ليون، بتحويل الكرسي الرسولي المستأسد إلى منصب له اعتباره في العالم أجمع، وقد كان البابا يوحنا بولس من الشخصيات الرئيسية التى ساهمت في إسقاط الشيوعية في أوروبا، كما لعب دوراً كبيرا في تبني الدول للنهج الديمقراطي في أمريكا اللاتينية وشرق آسيا، فيما كان يدافع عن شمولية حقوق الإنسان ويتحدى العلمانية غير المتسامحة لثقافة أوروبا النخبوية، فضلا عن ذلك التواصل الشخصي الذي يشعر به الكثير من الكاثوليك (مليار و350 مليون نسمة) تجاه البابا.
لماذا اضطربت العلاقة بين البابوية والعالم الإسلامي في عهد البابا بنديكتوس السادس عشر؟
الواقع أن انفتاحا كبيرا جرى من قبل الكنيسة الكاثوليكية على العالم العربي والإسلامي، غداة المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 ـ 1965)، ومنذ ذلك الحين تم تأسيس لجان للحوار الديني المشترك، وقد كانت حبرية البابا يوحنا بولس الثاني (1978 ـ 2005) مليئة بالمشاهد الإيجابية لعلاقة رأس الكنيسة الكاثوليكية بالمسلمين، فقد كان أول بابا يزور مسجدا في التاريخ، واشتهر بتعبيره الذي قاله فيه "بما أن الإسلام والمسيحية يعبدان الإله الواحد، خالق السماء والأرض، فالمجال كبير للتوافق والتعاون بينهما، والصدام يحصل فقط عندما يساء فهم الإسلام أو المسيحية، أو عندما يتم استغلالهما لأغراض سياسية أو إيديولوجية، وقد جاء هذا التصريح بعد مرور ثلاثة أشهر على هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2011 في نيويورك واشنطن.
غير أن محاضرة علمية للبابا بنديكتوس في رينسبورغ الألمانية تطرق فيها إلى حوار بين مانويل الثاني بليولوغس الإمبراطور البيزنطي، وعالم إسلامي فارسي، أشعل غضب العالم الإسلامي وأثار حفيظة المسلمين، الذين شعروا بإهانة متعمدة من قبل البابا.
ورغم تفسيرات الفاتيكان الأقرب إلى الاعتذار، وزيارة البابا إلى تركيا، ولاحقا إلى الأراضي المقدسة في فلسطين، ولقاءات مطولة مع مفكرين ورجال دين ومثقفين من العالم الإسلامي، إلا أن الأمر بات عالقا في الأذهان. ويكفي للتدليل على حال تلك العلاقات، أن البابا بنديكتوس الذي سيغادر منصبه رسميا في 28 فبراير الجاري، يرحل والعلاقات الحوارية بين الفاتيكان وبين الأزهر متوقفة، ولا نقول مقطوعة، وإن كان ذلك لسبب آخر، إذ اعتبر الأزهر أن البابا بتصريحاته يتدخل في شؤون مسيحيي الشرق الأوسط.
مهما يكن من أمر، فإن علامة الاستفهام تبقى كيف ستمضي هذه العلاقة بين البابا الجديد والعالم الإسلامي؟
حتما فإن مقاربة تاريخية بين حبريتي يوحنا بولس الثاني وبنديكتوس السادس عشر، سوف تفرض ذاتها بذاتها في ذهن البابا الجديد، وهناك من الأسماء المرشحة لخلافة البابا والتي لها حظوظ كبيرة في الفوز بالمنصب الرفيع، من له علاقة حوارية طيبة جداً مع الإسلام والمسلمين، وفي مقدمة هؤلاء الكاردينال "أنجلو سكولا" بطريرك مدينة البندقية في شمال إيطاليا، وتاريخيا كان في الغالب صاحب هذا المنصب يصل إلى البابوية، وقد تكرر ذلك في حبرية البابا يوحنا الثالث والعشرين، ثم البابا بولس السادس، ثم البابا يوحنا بولس الأول. والكاردينال سكولا من المهتمين جداً بالحوار مع العالم الإسلامي، ومعروف بمجلته الشهيرة "الواحة"، التى تفتح طريقا واسعا للحوار.
هل من مصلحة ما لإبقاء الخطوط والعلاقات مقطوعة مع الفاتيكان؟
يؤكد المؤرخ الأمريكي الشهر "وول ديورانت"، أن الفاتيكان هو أهم مؤسسة بشرية عرفها التاريخ عبر ألفي عام، ويذهب الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل، إلى أن الفاتيكان "إمبراطورية بدون حدود أو مستعمرات". والشاهد أيضا أن الحبر الأعظم، المهيمن روحيا على مليار و350 مليون كاثوليكي حول العالم، أضحي بالفعل أحد أعضاء الطبقة الخارقة، التى يتحدث عنها رجل الاستخبارات الأمريكية الشهير "ديفيد روثكبوف"، بمعني أن تأثيره يتجاوز البحار والمحيطات.
ومما لا شك فيه أنه إذا كانت هناك مشاهد من سوء تفاهم قد جرت في بابوية بنديكتوس السادس عشر، إلا أن الفاتيكان والكنيسة الكاثوليكية يتسمان بالعمل المؤسساتي الذي لا يتأثر كثيراً بغياب الأشخاص، لكن يبقي التوجه الفكري هو الحاكم والموجه للأحداث.
لا يظن العاقل أن ترك مثل هذه المؤسسة نهبا لسيطرة أعداء العرب والمسلمين أمر إيجابي، لا سيما وأن الكاثوليكية تبقي أبدا ودوما شريكا للإسلام والمسلمين في الكثير من المواقف الأخلاقية والأدبية ضد الإلحاد والملحدين، وفي مواجهة الدهريين والعلمانيين المتطرفين.
أما عن محاولات إسرائيل اختراق الفاتيكان، وقطع الطريق على أي علاقات إيجابية مع العرب والمسلمين، فتلك قصة أخري في حاجة إلى مقال آخر، ضمن سلسلة مقالات ستأخذنا إليها مجريات الأحداث في الأيام القادمة مع وصول بابا جديد للسدة البطرسية.