سوريا بعد التوافق الأميركي الروسي.. والعربي

ت + ت - الحجم الطبيعي

المتابع للشأن الدولي والإقليمي والعربي بكل تقاطعاته وتشابكاته وتبايناته، خصوصاً حول الأزمة السورية، يرى بوضوح متغيرات ظاهرة على كل المستويات في معظم المشاهد.

ويمكن أن يرصد ذلك الحراك السياسي والدبلوماسي المتسارع المتوافق والمتقاطع، سواء على المستوى الروسي الأميركي، أو على المستوى العربي الروسي، أو على المستوى السوري ـ السوري، بما يشير إلى أنه في نهاية النفق المظلم الذي يجد السوريون جميعاً أنفسهم محاصرين فيه، يلوح للجميع ضوء يشير للمخرج من المأزق الكارثي لا ينبغي تبديده.

ذلك المأزق الذي بات لا يحاصر الأطراف السورية المتصارعة وحدها، بل بدأ يحاصر بمخاطر استمرار تفاعلاته، وبأخطار كوارث تداعياته، كل الأطراف الإقليمية والدولية بغير استثناء، ما دفع الجميع إلى التراجع والمراجعة في المواقف السابقة عالية الأسقف، وبما أجبر الجميع على بدء النزول «الإبراهيمي» على السلم الروسي إلى أرض الحل السياسي، بعد الصعود «العربي» على السلم الأميركي أعلى الشجرة برهان خاسر على الحل العسكري وتكرار السيناريو الليبي!

هذا الحراك المتسارع يشير إلى أن الأسابيع المقبلة سوف تشهد خطوات عملية لحل الأزمة، وأنه من اليوم وحتى الخامس عشر من مارس، مع مرور عامين على انطلاقة الحراك الشعبي السوري وبداية الأزمة الدامية المفتوحة، فإن الواقع على الأرض مهما تشددت المواقف السياسية للأطراف.

ومهما اشتدت المواجهات بين العسكريين والمسلحين، ومهما تنقلت الانفجارات الإرهابية المفخخة ضد الأبرياء المدنيين، سوف يشهد انفراجات أكثر من الانفجارات، خصوصاً بعد التوافقات الروسية الأميركية في «ميونيخ» والتفاهمات العربية الروسية في «موسكو».

وفي الواقع فإن التغيير في الخطاب وفي السياسة تجاه الأزمة السورية، لم يحدث للأميركيين فقط، بل للسوريين وللعرب والمسلمين أيضاً، ففي «ميونيخ» جاءت المفاجأة التي سبقت القمة الإسلامية في القاهرة، بالدعوة للحوار مع النظام السوري بدلاً من الدمار، التي أطلقها الشيخ معاذ الخطيب رئيس المعارضين السوريين، لوقف نزف الدماء والتوصل إلى حل سياسي يحقق للشعب طموحه ويحفظ للوطن وحدته، الأمر الذي غير صياغة البيان الختامي للقمة وتضمينه الدعوة للحوار، بدلاً من إسقاط النظام.

وفي نهاية الأسبوع الماضي شهدت موسكو اجتماع «المنتدى العربي الروسي الأول»، الذي سعت الجامعة العربية عام 2009 إلى تحقيقه، والذي تأخرت الاستجابة لعقده مدة عامين، لغضب بعض العرب من السياسة الروسية تجاه سوريا. وفيه اجتمع الوفد الروسي برئاسة سيرغي لافروف، مع وفد وزاري عربي رباعي ضم وزراء خارجية مصر والعراق ولبنان والكويت، برئاسة الدكتور نبيل العربي أمين عام جامعة الدول العربية..

واتفق المنتدى على استبعاد الحل العسكري، ورفض التدخل الدولي، والدعوة للحل السلمي عبر الحوار والتفاوض بين المعارضة والنظام على أساس «بيان جنيف»، ورفض الإرهاب تحت كل الأسماء، ووضع استراتيجية للتعاون الاقتصادي العربي ـ الروسي.

وهو ما اعتبر تغييراً واضحاً في الموقف العربي، الذي سبق إلى دعم المعارضة المسلحة لإسقاط النظام السوري، بل وإلى استدعاء التدخل الدولي عبر مجلس الأمن على غرار السيناريو الليبي، وكأن الجامعة العربية كانت تهوى أن يلدغ العرب من ذات الجحر أكثر من مرة!

وقد بدأت تتضح معالم توافق دولي لحل الأزمة سياسياً، منذ لقاءات جنيف الأولى في بداية ديسمبر الماضي بين الدول الخمس الكبرى، وبعد لقاءات المبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي ونائبي وزيري الخارجية الروسي والأميركي لحل الخلافات في «جنيف الثانية».

ومثلما بدأت عملية تغيير المعادلات الإقليمية والدولية التي كانت سائدة، عبر صراع دموي على الأرض السورية، بدأ تسارع الأطراف الدولية والإقليمية بوضوح إلى محاولات إعادة ترتيب تلك المعادلات، في حراك سياسي نحو الحل السياسي، انطلاقاً من قياس موازين القوى على الأرض، بما جعل التدخل العسكري الأطلسي مستحيلاً ومرفوضاً. ويعود ذلك لعدة أسباب، أبرزها:

أولاً؛ ما بدا واضحاً للأطراف السورية المتصارعة من أن طريق الحسم العسكري لأي طرف بات مسدوداً، وأن المراهنة عليه والاستمرار فيه، هو رهان على الدمار الوطني والانتحار الجماعي، وبما دفع الائتلاف السوري المعارض إلى دعوة النظام للحوار، لوقف نزف الدم السوري المراق بغير ثمن.

ثانياً؛ نتيجة للمخاوف الأميركية من انتشار نفوذ القاعدة والتيارات المتطرفة، خصوصاً «جبهة النصرة» السلفية المقاتلة، التي صنفتها واشنطن بـ«الإرهابية»، استفادة من التجربة الليبية، خصوصاً بعد مقتل سفيرها خلال الهجوم على سفارتها في بني غازي.

ثالثاً؛ تغير السياسة الخارجية الأميركية، من المغامرات العسكرية إلى المحاورات السياسية لحل الأزمات والمشكلات الدولية، وهو ما عكسه خطاب الرئيس أوباما مع ولايته الثانية، محولاً أنظاره إلى المحيط الهادئ بدلاً من الشرق الأوسط، ومركزاً على حلول الأزمات الاقتصادية الأميركية، بدلاً من المغامرات العسكرية الفاشلة في أفغانستان والعراق وليبيا التي سببت هذه الأزمات!

رابعاً؛ انتقال تداعيات الاقتتال السوري المسلح إلى دول الجوار الإقليمي بما يهدد المصالح الأميركية، بداية بتركيا التي تلوذ بحائط صواريخ الباتريوت وحلف الناتو خوفاً من المواجهة، ومروراً بشرارة الاشتعال الطائفي والعرقي في العراق، ونهاية بتوتر المسألة السنية الشيعية في لبنان، وانتقال مئات اللاجئين السوريين إلى هذه البلدان، إضافة إلى الأردن الذي يعاني من تضخم أعداد اللاجئين السوريين والتوتر المستمر داخل مخيم الزعتري!

خامساً؛ الخوف الإسرائيلي من إمكانية وقوع الأسلحة الكيميائية السورية في أيدي الجماعات المتطرفة، أو نقل الأسلحة الصاروخية إلى حزب الله اللبناني، ما يخلط الأوراق ويهدد أمن إسرائيل، وخوف أميركا على أمن حليفتها الاستراتيجية!

وترجمة لهذه المتغيرات الأميركية والعربية والسورية، في الموقف من الحل العسكري إلى الحل السياسي، يبدأ غداً جون كيري وزير الخارجية الأميركي، أول جولة له في لمنطقة منذ تسلم منصبه الجديد، في الولاية الجديدة لأوباما بسياسته الخارجية الجديدة، والتي سوف تكشف الغطاء عن مقاربة أميركية جديدة لمتغيرات وأزمات المنطقة، بما قد يعيد صياغة الموقف الأميركي من «الحلفاء» و«الأعداء» على السواء!

 

Email