وسائل الاتصال والوعي والاقتصاد والتواصل

ت + ت - الحجم الطبيعي

أتذكر أوائل ثمانينات القرن الماضي، وقد كان الاتصال في بداية تفجره، وتخطو وسائله الخطوات الأولى نحو التعدد والمعلوماتية، ولم تكن الشبكة العالمية قد وصلت للبلدان العربية، كما لم تكن تُخترع بعد الأجهزة الذكية، أو لم تصل بدورها لبلادنا.

في ذلك الوقت نشر مختص عربي دراسة قال فيها إن التلفزيون يفرق ولا يجمع، يبعد ولا يقرب، ولاقى هذا الدارس عندها نقداً لاذعاً من المختصين، الذين أثارت هذه الفرضية دهشتهم، وأصروا جميعهم تقريباً، على أن التلفزيون، على عكس ما تقول الدراسة، يجمع العائلة والأصدقاء، ويغريهم بالبقاء في البيت، ويتحلقون حوله.

ورد كاتب الدراسة على بعض هذا الهجوم، مؤكداً أن هذا التجمع حول التلفزيون هو تجمع شكلي ووهمي، لأنه لا يعقد أية صلة بين الملتقين الجالسين حوله بعضهم مع البعض الآخر، بل تكون الصلة مباشرة بين كل فرد منهم وبين التلفزيون نفسه، أما هؤلاء المجتمعون أمامه فلا يقوم بينهم تواصل، رغم جلوس بعضهم إلى جانب بعضهم الآخر، فالصلة، والحالة هذه، هي خط مباشر مستقيم يربط المشاهد بالتلفزيون، ولا يربط المشاهد بالآخر الجالس جانبه، سواء أكان أخوه أو ابنه أو حتى زوجته.. أي في الخلاصة لا يكون الاتصال بينهم تفاعلياً.

وبعد تطور وسائل الاتصال والمعلومات، وتأسيس شبكة المعلومات (الإنترنت)، وتعدد مواقع الاتصال وأجهزة الاتصال، واتساع وظائفها، وقلة تكاليفها النسبية، وانتشار الأجهزة الذكية، بعد هذا كله برزت ظاهرتان مهمتان أخريان: الظاهرة الأولى، هي أن وسائل الاتصال والإعلام أصبحت صاحبة الدور الأول والرئيس في تشكيل وعي الناس، وأكدت الفرضية التي اختلف حولها الفلاسفة زمناً طويلاً، والمتعلقة بشروط تشكيل هذا الوعي؛ هل هي نتيجة أسباب ومحرضات داخلية أم خارجية؟ وحُسم الموقف لصالح دور الأسباب الخارجية في تشكيل الوعي وخلق الرأي العام، أو تطويره.

وعلى النطاق العملي، دخلت وسائل الاتصال عاملاً مهماً في نقد الحكومات (إذا قصرت في أداء مهماتها)، وإدارة الدولة (إذا أهملت تأدية وظائفها)، وتعميق ممارسة الحرية والديمقراطية، ونقد الانحرافات السياسية والاجتماعية، وتقديم المساعدة لتحقيق التنمية، سواء من حيث تشجيع العمل والإنتاج أو مكافحة تقليص الاستهلاك الترفي، كما لعبت دوراً مهماً في تثبيت معايير ومفاهيم وقيم جديدة للمجتمع، تتعلق بحياته أو منظومة قيمه الأخلاقية أو غير ذلك، بما ساعدها على أن تكون عاملاً حاسماً في تطور المجتمعات الحالي، وتحقيق الاستقرار الداخلي، ويبالغ بعض الدارسين فيرون أنها حلت محل الأيديولوجيا والأحزاب ونشاطات منظمات المجتمع المدني وغير ذلك.

والظاهرة الثانية، هي أن أهم جوانب اقتصادات المجتمعات الإنسانية الحالية، هي اقتصاد الصناعات الاتصالية والمعلوماتية وتشغيلها وما نتج عنها، فقد تجاوز الدخل الناجم عن هذه الاقتصادات مثيله الذي يعطيه إنتاج النفط، أو صناعة السلاح. وأتذكر أنه في تلك الفترة نشر المفكر والاقتصادي العربي المغربي وعالم المستقبليات المهدي المنجرة، دراسة حول اقتصاد المعلوماتية والاتصالات، توقع فيها أن هذا الاقتصاد سيلعب الدور الرئيس في اقتصادات المجتمعات وفي الاقتصاد العالمي قبل عام 2014. ولاقى رأيه هذا نقداً شديداً من كثير من الاقتصاديين والدارسين، وقد أثبت التطور في العقدين الأخيرين صحة توقعاته، بل تحققت هذه التوقعات قبل سنوات من موعدها المفترض.

وفي الخلاصة، أخذ تفجر الاتصال والمعلوماتية يحسم جوانب عدة من مسيرة المجتمعات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، ويتلاعب بالعقول، ويؤسس لعالم جديد لم تشهده هذه المجتمعات من قبل.

هناك فرضية تقول إن وسائل الاتصال والمعلوماتية، تبعد القريب وتقرب البعيد، انطلاقاً من أن هذه الوسائل، وخاصة الأجهزة الذكية (الهواتف المحمولة بما تحمل من برامج وإمكانيات تؤهلها لتتلقى خدمة الإنترنت، والإيميل، والفيس بوك، والتويتر، وغيرها)، وما تُزود به من برامج وألعاب للصغار والكبار، تتكاتف جميعها لتفصل المتلقي عما حوله؛ عن مجتمعه الصغير (الأسرة) أو مجتمعه الكبير أو الأكبر، وتأسره وتجعل صلته الأساس ترتبط بهذه الأجهزة والوسائل ومواقعها، إلى الدرجة التي تضع هذا المتلقي بين مخالب الإدمان، حيث يهمل كل مشاغله ومهماته الأخرى ليتفرغ لها، حتى صرنا نقرأ ونسمع عن متلقين يمضون ساعات عدة يومياً وهم مشغولون بالتعامل مع الأجهزة الذكية، ومحتوياتها وشبكاتها، إلى درجة وصلت بالبعض إلى خسران التواصل مع أبنائه أو زوجته بسبب انصرافه عنهم، واستنزاف هذه الأجهزة لجهده ووقته، وفي الآن نفسه أصبحت وسائل الاتصال الذكية وغير الذكية تصرفه عن عمله اليومي، ولا تتيح له المساهمة في الحياة الاجتماعية، أو مؤسسات المجتمع المدني، أو متابعة الشؤون الثقافية أو غيرها، وتبعده عن شؤون المجتمع، وعن مشاركته في الشؤون العامة، وكأن مجتمعه أو ما يحيط به لا يهمه، بعد أن أصبح أسيراً طوال الوقت لأجهزة الاتصال والمعلوماتية، لا يستطيع مفارقتها، ويدمن على صداقتها والتعامل معها، ويهمل كل شيء غيرها، أو على الأقل، يقصر في واجباته الأسرية والاجتماعية والإنسانية بسببها..

وهكذا، فبقدر ما تساهم هذه الوسائل والأجهزة في إيصال المعلومة للمتلقي، وتبقيه مواكباً لأحداث عصره، وتطور معارفه ومعلوماته وربما ثقافته، بقدر ما تفصله عن المجتمع، وتضعه في عالم خاص به لا صلة له مع أحد، ولا يؤثر أو يتأثر بما حوله، ويضع نفسه في شرنقة، ويصير أسيراً لها، وتبعده عن أقرب أقربائه، وفي الآن نفسه تقربه من البعيد، شخصاً كان هذا البعيد أو معلومة، أو أي شيء آخر.. ولذلك حق عليها القول: تقرب البعيد وتبعد القريب.

 

Email