دعيت من قبل حكومة تركمانستان للمشاركة في مؤتمر دولي احتفاء بعيد نوروز التاريخي، الذي عدّ من قبل اليونسكو عام 2009 عيداً عالمياً، بسبب رسوخه منذ القدم لدى عدة شعوب آسيوية، وبصفة سفير السلام العالمي ممثلاً منظمة السلام العالمي الأمم المتحدة في هذا العيد الإنساني.

ولقد كان يوم 21 آذار/ مارس هذا العام، يوماً تاريخياً في حياة العاصمة التركمانستانية عشق آباد، حيث حضر المؤتمر الذي انعقد في أكاديمية العلوم والمهرجان معاً، رؤساء عشر دول اجتمعوا مع قرابة خمسين عالماً في مختلف التخصصات من العالم كله.

وقد خصصت الجلسة الأولى في قاعة كبرى، للرؤساء الذين تكلموا جميعاً، وقدموا خطباً أشبه بمحاضرات قصار، رفقة كلمة السكرتير العام للأمم المتحدة، ثم حضر الجميع مهرجاناً كبيراً يحكي قصة نوروز التراثية عند التركمان الأشداء وفولكلورياتهم الجميلة، ثم جلس الجميع معاً؛ رؤساء وعلماء وسفراء وصحافيين وفنانين ومراقبين من مختلف الشعوب، على مائدة واحدة في ضيافة الرئيس التركمانستاني قربان قلي بردي محمدوف، في خيمة كبرى، وقد قدمت على المسرح لوحات فنية وفولكلورية رائعة، تمثل كل واحدة منها شعباً من الشعوب عن نوروز..

وكان الرئيس التركمانستاني الذي ترأس أعمال المؤتمر والمهرجان معاً، قد قال في كلمته الافتتاحية، إنه حرص على أن يجمع القادة والعلماء معاً بهذه المناسبة التاريخية التي ترمز إلى الخير والمحبة والجمال.. والتي يعتز بها نصف سكان الأرض، كما جاء في كلمة الرئيس الأذربيجاني..

كما ربطه الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد بالإسلام، كونه مدعاة للخير والعطاء منذ آلاف السنين.. أما الرئيس الأفغاني محمد كرزاي، فقال إن نوروز يبعث الأمل في النفوس من أجل المستقبل.. واتفق معهم الرئيس الباكستاني آصف علي زرداري وبقية الرؤساء.. وقال ممثل الأمم المتحدة إن نوروز هو أقدم عيد عرفته البشرية منذ 3000 سنة قبل الميلاد، ولم يزل يحيا ويعيش في ضمير ملايين البشر، وها نحن نجتمع اليوم لنكون عشاق خير ومحبة وسلام في مثل هذا اليوم المسمى بنوروز؛ أي اليوم الجديد.

كان يوماً رائعاً عندما استمع آلاف الحضور من أبناء تلك المنظومة الآسيوية لخطب رؤسائهم، بعيداً عن السياسة، وهم يحكون مآثر عيد قديم جداً سيكون عاملاً مؤثراً في زرع المحبة والخير بين الشعوب، بعيداً عن الكراهية والأحقاد والحروب..

لقد تحدث رؤساء تركمانستان وإيران وأفغانستان وباكستان وتتارستان وأذربيجان وطاجيكستان وكازاخستان وقرغيرستان، وممثل عن الرئيس التركي، فضلاً عن ممثل عن السكرتير العام للأمم المتحدة الذي قدم خطاب المنظمة.. ولقد تمنيت وأنا أتابع الجلسات، أن يكون بين الحضور أحد الرؤساء العرب، بل كان من الضروري أن يكون بين الحضور أحد القادة الكرد، لأن نوروز عيد للأكراد في كل العالم أيضاً، والأكراد يعتزون به اعتزازاً كبيراً، وكان العراق قد منح كل شعبه عطلة رسمية في عيد نوروز كل عام، احتفاء به منذ أكثر من ستين سنة.

وقد قدم العديد من العلماء والأكاديميين الذين حضروا أعمال المؤتمر، عدة أوراق وأفكار عن هذه الظاهرة التاريخية، التي يجتمع حولها الملايين من سكان الأرض في عموم وسط وغربي آسيا وشرق أوروبا..

وقد كشفت ورقتي عن جذور هذا العيد الذي استقرت الأكثرية أنه يأتي في الواحد والعشرين من مارس، حيث يبدأ الربيع ويرحل الشتاء وتتفتح الزهور في المراعي الخضراء، وخصوصاً زهور التولب الحمراء أو النرجس الصفراء..

وقد وجدت باعتمادي على بعض المؤرخين والآثاريين المعروفين في العالم، أن السومريين في بلاد ما بين النهرين كانوا أول من أوجد هذا اليوم باحتفالاتهم في الأيام الأخيرة من مارس وبدايات شهر أبريل، ثم أعقبهم البابليون والأكاديون والآشوريون والحيثيون.. وقد تطور كثيراً من قبل الأخمينيين الإيرانيين الذين استقر رأيهم على يوم 21 مارس من كل عام، مروراً بالساسانيين والبارثيين الذين انتشر على أيديهم انتشاراً كبيراً في غربي آسيا، ولما جاء الإسلام لم يقف سلباً من هذا العيد.. بل نجد نوروز حاضراً لدى العباسيين الذين احترموه وتمتعوا به كثيراً، وقال الشعراء العرب فيه شعراً جميلاً، وعلى رأسهم البحتري الذي قال:

أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكاً * من الحسن حتـى كـاد أن يتكلمـا

وقد نبه النوروز في غسق الدجى * أوائـل ورد كن بالأمـس نومـا

يفتقهـا بــرد الـنـدى فكـأنه * يبث حديثـاً كـان قـبلُ مكتّـما

ومـن شجـر رد الربيـع لباسـه * عليه كما نشـّرت وشيـاً منمنمـا

وقد انتشر بين الأكراد والأتراك القدماء، ثم العثمانيين الذين نشروه في شرق أوروبا.. ووجدت أن لكل شعب من الشعوب ملحمة وأساطير تحكي جميعها عيد نوروز، رددها ملايين البشر منذ مئات السنين. ولعل أحلاها ملحمة الكرد التي تضمنت معاني القوة والبطولة ضد الجور والطغيان، فاعتبر نوروز عيداً كردياً وطنياً.

ولقد عقّبت ممثلة منظمة اليونسكو على كلمتي قائلة: إن بلاد وادي الرافدين وما حولها تعد منبت الأديان والأعياد والملاحم والأساطير، وأن العالم اليوم لا بد أن يستفيد من التراث الحضاري الإنساني، من أجل فهم أوسع للتعايش في المستقبل.