منذ فترة نشرت في «تويتر» مقولة للشاعر الأميركي رالف إيميرسون، كنت وجدتها في كتاب صغير جميل اسمه "مميز بالأصفر"، جاء فيها: "لكل دقيقة واحدة من الغضب، فإنك تخسر ستين ثانية من السعادة"، ولقيت التغريدة صدى جميلا، حيث حصلت على الكثير من الردود وإعادة النشر. وبالطبع، وكما هي الحال دوماً في عالم «تويتر»، رد على التغريدة بعض الظرفاء وغيرهم، كذلك الذي رد قائلا: شكرا لك، فقد كنت لا أعرف كم ثانية في الدقيقة!
وفي الحقيقة فإن إيميرسون كان بليغاً جداً، حين استخدم في عبارته "دقيقة من الغضب في مقابل ستين ثانية من السعادة"، وذلك لأن الغضب يوزن بالدقائق، لأنه مجنون ورخيص ومتاح لكل شخص، وأما السعادة فلا يجب أن تقاس إلا بالثواني، لأنها جميلة ونادرة وغالية لا ينالها إلا الأذكياء، تماماً كالألماس الذي يقاس بالقيراطات الصغيرة، على عكس الحديد الذي يقاس بالأطنان الضخمة البلهاء!
نعم، دقيقة مجنونة رخيصة من غضب أعمى ينجرف المرء في لجتها، تُضّيع من عمره مباشرة ستين ثانية غالية لا يمكن تعويضها. لكن الحقيقة الصارخة الأكثر إيلاماً، هي أن دقيقة الغضب هذه قد تضيع من عمره أكثر بكثير من هذه الثواني الستين، فقد تحرق معها جسور محبة، وقد تقطع صلات رحم، وقد تجرح نفوساً جراحاً بليغة، وقد تخلق عداوات وتوقع صاحبها في مشاكل لعلها تستعصي على الحل، وقد تورث من بعد ذلك ألماً وندماً مراً لا يزول ولا ينجلي.
لذلك عندما جاء ذلك الرجل إلى نبينا عليه الصلاة والسلام وقال: أوصني، طالباً منه وصية جامعة، قال له: ((لا تغضب))، وكررها مراراً، لتكون هذه النصيحة بمثابة مفتاحه للخير كله. وبالطبع فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعني هنا أن لا يغضب الإنسان مطلقاً، فليس هذا في استطاعة بشر، بل إن شخصا يُستَغضب لأمر يستحق فلا يغضب، هو شخص مختل نفسياً وشعورياً، وربما عقلياً.
وإنما المراد البديهي أن يسيطر الإنسان على مقدار انفعالاته ويتمالك نفسه عندما يغضب، حتى لا يطيش صوابه فيفقد قدرته على الحكم السديد ووزن الأمور بالشكل السليم، وهذا يتفق مع ما جاء في الحديث: ((ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب)).
ولهذا أيضاً كان من دعائه عليه الصلاة والسلام دائما: ((اللهم إني أسألك كلمة الحق في الغضب والرضى))، فالغضب الأعمى مخلوق شيطاني يحرف الإنسان عن طريق الحق، وقد قالها النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: ((إن الغضب من الشيطان، خُلق من النار، وإنما تطفأ النار بالماء، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ)).
وبعد هذا كله، فلا أظن عاقلاً يجادل في خطورة الغضب وفقدان السيطرة على الأعصاب.
يوم توفي أخي الأصغر عبدالعزيز وهو لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، بعد معاناة أليمة مع مرض السرطان، أصابتني شهور تلك التجربة المؤلمة ومن ثم وفاته الصاعقة، في صميم نفسي، وكأنها صفعتني على وجهي بقبضة من رصاص، وحقنت شراييني بمصل تجربة عمرها عشرات السنين. كانت تجربة بليغة تعلمت منها الكثير، ولعلي أكتب عن ذلك باستفاضة يوماً.
ولكن من أهم ما تعلمت منها، أن عمر الإنسان قصير ولو طال، وأن المرء يظلم نفسه كثيراً حين يضيع جزءاً من هذا العمر، في الغضب المجنون والنزاعات والصراعات التي لا طائل من ورائها، ليخسر في مقابل ذلك الكثير من لحظات السعادة، التي لا يمكن تعويضها مع من يحب، والأهم من ذلك مع نفسه.
العمـر قصـير يا سـادتي، وتمر سنواته كمر الجياد الراكضة في سفوح الجبال، فلنحسن اقتناص اللحظات واستغلالها، ولنحذر قتل ثواني السعادة على مذبح الغضب، فقد يأتي الرحيل والفراق.. والموت بغتة!