لماذا أخفق مشروع النهضة والتنوير في العالم العربي؟ هذا السؤال كان محور إحدى الندوات الفكرية التي عقدت في مهرجان الجنادرية للثقافة والتراث، الذي يقام كل عام في مدينة الرياض. فهذا السؤال الذي لا ينفك يتجدد، في ضوء الإخفاقات والخيبات أو التحديات والتحولات، إنما يطال مشروع الحداثة بمختلف عناوينها واتجاهاتها وأجيالها وطبعاتها. فكيف نفهم أن تترجم الشعارات بأضدادها.
كما ترجمت الحرية إلى استبداد، والعقلانية إلى شعوذة، والإنسانية إلى همجية، والتقدم إلى تخلّف، والتنوير إلى عجز وقصور؟. وما يصح على جبهة الحداثة، يصح في معسكر الدين، بصورة مضاعفة. فبعد صعود التيارات الإسلامية على المسرح، تحولت الصحوة إلى عتمة، والشريعة إلى عقوبة، والهوية إلى مشكلة، والتراث إلى عصاب، والدين إلى إرهاب.
قد لا يجدر بنا نحن جلد الذات، إزاء إشكالية تخصّ الفاعل البشري عموماً، كما يتجلى ذلك بشكل خاص لدى أصحاب المشاريع الثورية والجذرية لتغيير العالم، تحت هذا الشعار أو ذاك.. فالملاحظ أن الإنسان لا يتحكم في أعماله وصنائعه وأنظمته التي تتعداه وتفلت من سيطرته، لكي تفاجئه بمفاعيلها وتداعياتها السلبية أو المدمرة. فكيف نفسر هذه الإشكالية المربكة والمفارقة الفاضحة؟.
هناك كتّاب عرب وغربيون يقاربون المسائل من خلال فلسفة التاريخ ومفرداتها، وعلى رأسها مقولة هيغل حول "مكر" التاريخ أو سخريته. فالفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشيه، يلجأ إلى استعارة المكر أو السخرية، إذ هي التي تتيح لنا، في رأيه، أن نفهم كيف أن أصحاب المشاريع الشمولية (النازية والفاشية والستالينية)، ممن أرادوا بناء مجتمعات على أساس العلم، قد جرتهم الأحداث إلى عكس ما خططوا له، بقدر ما جرت من غير علمهم وضد إرادتهم.
عربياً، هناك من يفسر وصول الإسلام السياسي إلى سدة الحكم، بقوله: هذه عاقبة من يقفز فوق قوانين التاريخ، أو من يعرقل مسيرة تقدمه إلى الأمام، أو من لا يحسن تصفية حساباته مع ماضيه السلفي والأصولي، على سبيل التكنيس والتعزيل لأحشائه ونفاياته.
وهي مهمة تحتاج، في رأيهم، إلى شخصية تاريخية عظيمة، زعيم أوحد أو مرشد متأله أو فيلسوف منظر أو بطل منقذ، يشخصّ الداء ويقدم الدواء. ولكن استعارة "المكر" الجذابة والموحية، تحجب وتموه أكثر مما تشرح وتفسّر، إذ هي، وكما يفهمونها، بصورة غيبية سحرية، تبنى على تأليه التاريخ، بالتعامل معه كذات قاصدة تراقب، من عليائها، البشر لكي تحاكمهم وتنتقم منهم كما ينتقم الله من عبيده الذين كذبوا بآياته.
وهؤلاء هم الوجه الآخر للذين يقولون إننا فشلنا، لكوننا لم نعمل بما عمل به السلف الصالح. كيف نخرج إذن من المأزق؟ أن نفكر بطريقة مختلفة، بحيث نفكك ما يستوطن عقولنا من المقولات المستهلكة والثوابت المتحجرة والمعارف الميتة.
والرؤى الطوباوية والمفاهيم الساذجة حول التاريخ والتقدم والعقلانية والنهضة والاستنارة والإنسانية، فضلاً عن التحرر من وصايتنا النخبوية الفاشلة على شؤون المجتمع والأمة والبشرية. فنحن ضحايا أفكارنا التي تختم على العقول، ولا تنتج سوى المعضلات التي لا حل لها.. وسأتوقف عند بعض القضايا:
الأولى، تختص بكيفية التعامل مع التراث، بحيث نعمل على كسر منطق النفي. فلا شيء مما يحدث يمكن إلغاؤه، لأنه يصبح جزءاً من بنية الواقع، ويترك أثره في الحاضر والمستقبل. لقد ظنّ الحداثيون والعلمانيون، في ما مضى، أن الدين بات مرحلة بائدة في تاريخ الإنسانية، لكي نفاجأ بأن الدين بمرشديه ودعاته وجهادييه، هم أمامنا ينتظروننا لكي ينتقموا منا. واليوم نفاجأ بالعكس: فالعلمانية التي ظن أنها ضد الدين، باتت حاجة ماسة، كما أدرك بعض رجال الدين، لوقف مسلسل الحروب بين المسلمين أنفسهم.
فالأجدى أن نتخلى عن مفردات القطيعة والمكنسة والنفاية التي تشهد على جهلنا وسذاجتنا، بقدر ما تتبّح عزلتنا عن المجتمع وهامشيتنا تجاه المجريات، لكي نعمل بمنطق الخلق والتحويل.
الثانية، هي قضية النهوض، التي جرى التعامل معها بعقلية دفتر الشروط، فيما الممكن أن نتجاوز مقولة كانط حول شروط الإمكان، للاشتغال بمنطق الخلق والخرق، أعني خلق وقائع تغير المعطيات وتخرق الشروط، لتغير خريطة الفكر وعلاقات القوة.
بهذا المعنى يأتي النجاح في مشروع النهوض، كثمرة لتخيل خلاق وخارق تنفتح معه الأبواب الموصدة، أو تطلق الطاقات المحبوسة، بقدر ما تجترح إمكانات للتفكير والتقدير والتدبير، بصورة غير متوقعة ولا منتظرة. وهكذا فنحن ندرس ونحلل، لكي نركب حلولاً ونصنع نماذج نكسر بها القوالب أو نخرق المقاييس والمعايير.
الثالثة، هي مسألة العقلانية، فقد ألهنا العقل بوصفه مرجعية مطلقة قابضة، تفصل على نحو قاطع بين الحق والباطل أو الصح والخطأ أو الخير والشر، فلغمنا عقولنا التي اجتاحتها الخرافة والشعوذة.. ذلك أن العقل هو فاعلية بشرية لها حدودها، بمعنى أنه لا يكف عن إنتاج لا معقولاته، كما تتجسد في بداهاته الخادعة أو قوالبه الجامدة أو أنساقه المغلقة أو مقولاته المستهلكة. وهذا ما يجعل الفاعل أو اللاعب، يتعامى عن واقعه، أو يجهل مآل أعماله، أو ينتهك ما يدعو إليه، أو يتواطأ مع ضده الذي يدعي محاربته..
بهذا المعنى، فالإخفاق والعجز والتراجع لا ترد إلى مكر التاريخ، ولا إلى مكر الله، بل إلى حدود الإنسان، إلى طيات الفكر ومخاتلة اللغة وألاعيب النص، كما يرد إلى أفخاخ الرغبة واصطفاء العقيدة وعنصرية الهوية ونرجسية الثقافة. وإذا كان ما يحدث يخرج عن السيطرة، فإنه يفتح المجال للتدخل الفعّال والتدبير الملائم، عند من يحسن قراءة المجريات وتشخيص المشكلات.
وأخيراً، ففي مسألة التنوير، تعاملنا مع هذا العنوان العريض بصورة سلفية، قاصرة، ساذجة، بدائية... هكذا تخيل بعضنا التنوير، بوصفه زمناً يمكن استرجاعه، أو نموذجاً يمكن احتذاؤه، فترجمناه عجزاً وسباتاً. بكلام أوضح، لقد تصرفنا كديناصورات حداثية، إذ تخيلنا ماضي أوروبا في القرون السالفة بوصفه نموذجنا ومستقبلنا الآتي. والحصيلة أننا تعلقنا بماضٍ مضى ولن يعود، بقدر ما حاولنا اللحاق بمستقبل لا ينفك يبتعد.
بهذا المعنى، فالتنوير هو مشروع لا يكتمل.. إنه بعكس ما قال هابرماس، الذي رفض نقد مشروع الأنوار قبل اكتماله. فلا شيء يكتمل، إذ ما من عصر إلا وله ظلماته، وما من فكرة إلا ولها عتماتها. ولذا، فما نحتاج إليه ليس الدخول في التاريخ كما يحسب أهل العجز والسبات، بل الخروج من التاريخ بكهوفه وسراديبه ومتاهاته، من أجل صناعة الحاضر الذي يهيئ لمستقبل يعد بالأحسن، ولا يثير الخوف أو الفزع من المجهول.. بهذا المعنى، فما نقوله أو نرسمه حول الماضي، هو مستقبلنا الآتي.