عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السيّاسات، مؤتمره السنوي الثاني للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة، الذي نظّمه في العاصمة القطرية الدوحة يومي 30 و31 آذار/ مارس المنصرم، وقد شاركت فيه نخبة من العلماء والمفكرّين العرب الذين تحدّثوا في هذين الموضوعين الخطيرين، وفي ظلّ فهم أن واقعنا العربي في أمسّ الحاجة لفهم كليهما.. وأعتقد أن مؤتمرا واحدا لا يكفي للتوغّل والتوّسع في مضامينهما، سواء بالنسبة للدولة أو للمجتمع.
وقد سجلت على هامش أعمال المؤتمر، بعض الآراء والافكار التي يمكنها أن تخدم مشروعنا الحضاري العربي في القرن الواحد والعشرين..
إن موضوع العدالة يعدّ اليوم من أهم الموضوعات التي تحتاجها دولنا ومجتمعاتنا، ذلك أن فكرة العدالة لم تزل مهمّشة في التفكير والبحث العربيين، ومهملة في التطبيق عندنا، رغم أن فكرة العدالة قد أغنيت بالمزيد من الدروس لدى مجتمعات أخرى، وأنها مرّت في هذا العالم عبر آلاف السنين، بأطوار تاريخية تطوّرت فيها من خلال شرائع وقوانين وضوابط وتقاليد، منذ شريعة حمورابي وصولا إلى النظريات والتطبيقات الاشتراكية في القرن العشرين، وبعد أن تطوّرت فكرة المساواة والمواطنة والحرّيات وحقوق الإنسان.
وكما قال الدكتور عزمي بشارة في كلمته الافتتاحية للمؤتمر: "إذا أردنا أن نساهم كعرب في العلوم الاجتماعية في هذه المرحلة وأخذا بعين الاعتبار للواقع العربي... فإن مساهمتنا الكونية في العلوم الاجتماعية يجب أن تنطلق من واقعنا.
وفي واقعنا لا توجد قضية أهمّ من قضيّة فشل الاندماج الاجتماعي، وليس بالإمكان تحقيق العدالة من دون تحقيق الاندماج الاجتماعي، ونقصد بذلك الاندماج الثقافي والاقتصادي وعلى مستوى الهويّة وعلى مستوى المواطنة".
وعليه، فإن الموضوعين يرتبط كل منهما بالآخر، وأيّ دولة من دولنا العربيّة لا يمكن تسميتها بـ"دولة " إن لم تكتمل عناصر نجاحها الأساسيّة بتأسيس عقد اجتماعي بينها وبين المجتمع، فالعدالة التي تقوم على الهويّات لا تؤسس دولة، والعدالة التي لا تعتمد القانون لا تخدم المجتمع. إن "دولة" من دون عدالة، هي مجرد كيان سياسي ليس له أي عقد أخلاقي أو اجتماعي بينه وبين مجتمعه!
لقد فتح المؤتمر الباب أمام الفكر العربي المعاصر لمعالجة موضوع العدالة والاندماج الاجتماعي، بدءا بمعرفة معانيهما وانتقالا إلى فهم مضامينهما، وخصوصا فكرة المساواة بين الناس وكيفية بلورتها في حياتنا العربيّة المعاصرة؛ فكريّا وثقافيّا وسياسيّا، والابتعاد عن جعل التعاقد بين الدولة والمجتمع على غير أسس وطنيّة وعادلة. وهذا ما توغل فيه الفكر الغربي الحديث وأثراه بالبحث والتفكير، فأفاد كلا من الدولة والمجتمع.
الأوراق البحثيّة التي قدمّت لهذا "المؤتمر" كانت كثيرة، لكن المنظمين اختاروا أفضلها بما يستقيم وأهداف المؤتمر.. وكنت آمل أن أجد حوارات ونقاشات ثمينة حول كلّ من هذين الموضوعين الحيوييّن، ولكن غالبية الحوارات كانت ضعيفة وبعيدة عن مناقشة تلك الجدليّة الممتازة، حيث ذهب الحوار كالعادة في نقاشات سياسية وإنشائية وشعاراتية..
كنت أتمنّى أن تعالج هذه الموضوعات في جدليّة العدالة والاندماج الاجتماعي، كموضوع الأقليّات، والحرمان والهجرة، والمرأة والطفولة، والطائفيّة والعشائريّة، والتهميش والترييف، والتعليم والاستحقاقات والمنفعة، والفساد وغياب الأخلاقيات، وترحيل القيم والمهن، والأصناف والقوى الفاعلة والنخب السياسيّة، انتقالا إلى المنفيين والمهجّرين والهاربين والمعتقلين والمساجين والمقصيّين، وسكان العشوائيّات من الفقراء والمظلومين والعاطلين والمسحوقين..
بدل البقاء في دوّامة المعالجات السياسيّة والإيديولوجيّة التي ألفنا سماعها منذ ستّين سنة، ناهيكم عن تعلّق بعض المتخصصّين العرب بأفكار بعض الكتّاب الغربيين، مثل هذا المفكّر الأوروبّي أو ذاك الفيلسوف الأميركي لترديد مقولاتهما، والابتعاد عن محاولة إيجاد مساحة للتفكير الواقعي واستنباط جملة أفكار متأصلة في حياتنا العربية المعاصرة، في البحث عن معنى العدالة وفهم الاندماج الاجتماعي.
كنت أتمنى أن يتساءل المؤتمرون: أين هي الدولة الوطنيّة في حياتنا؟ وأين تكمن مرجعيّاتها؟ أين المواطنة الحقيقية في ظلّ اللاعدالة؟ أين درس التعايش بين الناس في ظل التمزّقات لا الاندماجات؟
يتوجب علينا ونحن نبحث واقعنا في مؤتمر علمي، أن نفكر بنبض مجتمعاتنا وأحوالها، وأن نبحث في كيفية غرس فهم عربي جديد في العدالة والاندماج الاجتماعي.. لا أن نأتي لنردّد ما قاله هذا الأميركي عن واقعه، وما قاله ذاك الهندي عن قيمه..
وأخيرا، أقول بأنّ مجتمعاتنا بعيدة كل البعد عن فهم العلوم الاجتماعية والإنسانية، كما أنها أبعد ما تكون عن فهم واقعنا الذي هو في أمسّ الحاجة إلى العلماء الحقيقيين، الذين لهم القدرة على استنباط أفكار وتأصيل نظريّات، وزرع قيم علميّة جديدة عليا، من أجل المعالجة والتقدّم ونشر الفكر المدني، متعمّقين بمعالجة العدالة، سواء في تراثنا أم تراث الأمم الأخرى، كي نقضي على الأمراض الصعبة التي تجتاح حياتنا، ولكي نحمي شعوبنا من الإخفاقات والظلم والدكتاتوريات والحروب الأهليّة..