استهداف دمشق وبغداد والقاهرة.. لماذا؟

أكثر العواصم العربية والإسلامية تفجراً واشتعالاً وسخونة هذه الأيام، وعلى مدى العامين الماضيين، كانت دمشق وبغداد والقاهرة، بحيث أصبحت هي الهم العربي والإسلامي الأول، فهل هي مجرد صدفة أن يتركز الاستهداف ومخططات التدمير والتفكيك والتقسيم الاستعماري الغربي بقيادة حلف الناتو .

ومن تبعه بغير إحسان، على العواصم التاريخية الكبرى للحضارة العربية الإسلامية، في عهود الدولة الأموية في الشام، والعباسية في بلاد الرافدين، والفاطمية في مصر وشمال إفريقيا، أم هو نوع من الرد الانتقامي الغربي ضد كل ما هو إسلامي وعربي للثأر التاريخي؟!

المشاهد المتشابهة والمتباينة، في أكثر من موقع على الخريطة العربية، لا تكاد تنفصل كثيراً عن بعضها، لا في مقدماتها ولا في مساراتها ولا في نتائجها، ربما فقط في تفاصيلها ومكوناتها وفي درجات سخونتها أو برودتها، وتفجرها أو اشتعالها، وسلميتها أو دمويتها، ذلك أنها تتصل كثيراً في جذورها التاريخية.

وفي امتدادها الجغرافي، وفي تواصل شعوبها الحضاري والديني والثقافي، بل وفي امتزاج أبنائها الاجتماعي، وبالتالي في مصالحها المتبادلة ومستقبلها المشترك.

غير أن هناك ما لا يقل أهمية عن كل ذلك، وهو أن هذه المنطقة العربية الممتدة من المحيط إلى الخليج، والتي تسكن بموقعها في قلب العالم بين الشرق والغرب، كانت منذ فجر التاريخ مهداً لأعرق الحضارات الإنسانية الأولى التي علمت الدنيا كلها، في مصر والشام والعراق واليمن، كما كانت مهبطاً للرسالات السماوية الخالدة الثلاث؛ اليهودية والمسيحية والإسلام، التي أضاءت بأنوار هدايتها وبقيم ومنجزات حضاراتها البشرية جمعاء.

ومن هنا كانت المنطقة مفتوحة فيما بينها بغير سدود ولا حدود، وكانت كلها تتعرض للموجات الخارجية الغازية نفسها، وكانت بشكل أو بآخر تتوحد في معاناة آثارها وفي أعباء مواجهتها ومقاومتها وصدها، سواء في الماضي البعيد ضد غزوات الحيثيين والفرس والإغريق والرومان.

أو في الماضي الوسيط في ظل تاريخها العربي الإسلامي تصدياً للحملات الصليبية، أو للحملات التتارية والمغولية، أو في تاريخها الحديث مع هجمة الاستعمار القديم تصدياً ومقاومة للاحتلال الإنجليزي والفرنسي والإيطالي.. ثم الصهيوني.

ولقد كانت دمشق وبغداد والقاهرة عواصم المثلث الحضاري العربي الإسلامي، في عصور الدولة الأموية في الشام، والعباسية في العراق، والفاطمية في مصر، هي الأهداف الأولى دوماً لذلك الهجوم الاستعماري الغازي، سواء من الغرب أو من الشرق وفي كل تلك المراحل التاريخية، حينما وقفت شعوب هذا المثلث كحوائط صد رئيسية، وسدود عالية في وجه الغزاة ودفعت، ولا تزال، التضحيات الغالية لتصد عن نفسها وعن أمتها العربية والإسلامية شرور الغزوات الأجنبية الصليبية والصهيونية.

ومثلما كان هذا المثلث الحضاري العربي الإسلامي هدفاً في الماضي لهجمات الاستعمار الأنجلو فرنسي القديم، ودرع الدفاع الرئيسي عن الأمة التي قسموها ضمن مناطق نفوذ، فلا يزال إلى اليوم يدفع فواتير الثأر التاريخي هدفاً لهجمات الاستعمار الصهيو أميركي الجديد.

وميداناً للصراع بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، في سعي غربي محموم لإعادة السيطرة عليه، لموقعه الاستراتيجي وثرواته الهائلة، وسعياً لطمس هويته الحضارية والدينية، لفرض الهيمنة الثقافية الغربية الأميركية عليه، بحراسة قاعدتها العسكرية الصهيونية في فلسطين، بهدف الهيمنة على العالم!

إن كل أنواع الحروب الصغرى والكبرى الحالية، الأهلية والدولية، تصنعها المظالم الدولية، وتحركها المطامع الاستعمارية لتحقيق المكاسب، وتقف وراءها دوافع تصفية آثار الحرب الباردة، والرغبة في الانتقام، وترسم أوهام النصر فيها وفرة وسائل القوة وغياب معالم الحكمة.

والشعور بغطرسة القوة، الذي يولد حماقة القوة وخطأ الحساب، وقصر النظر وغباء القرار الاستعماري، الذي واجه شبح الهزيمة في أفغانستان وفي العراق، وحصد الإفلاس الاقتصادي والأخلاقي، وهو الآن يعيد حساباته وخططه وتكتيكاته.

وإذا كان الأسلوب القديم للاستعمار القديم هو تهشيم الأمة الواحدة إلى دول عدة، فإن الأسلوب الجديد للاستعمار الجديد هو زرع "الفوضى الهدامة"، وإثارة الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، لتفكيك الدولة الواحدة إلى كانتونات طائفية وكيانات مذهبية، كشظايا متناقضة وضعيفة، لتسهيل سيطرته على الضعفاء، ولتمكين إسرائيل المدعومة غربياً والقائمة على أساس ديني، من القبول ومن أن تكون هي القوة الإقليمية الكبيرة والوحيدة في المنطقة..

ويلفت النظر في الهجمة الغربية على المنطقة، أن الأدوات المنفذة لمشروعات الفوضى والانقسام في المنطقة العربية، كانت غالباً من الذين يتصدرون المشاهد الجديدة، تارة تحت علم "الثورة" .

وتارة تحت علم "الجهاد"، ومن المتطرفين المقاتلين المحسوبين على المسلمين، والأسلوب هو ضرب العروبة بالإسلام، ثم ضرب الإسلام بشهود الزور من المسلمين، بهدف استنزاف الجبهات العربية المواجهة لإسرائيل، في مواجهات دامية بين شعوبها وجيوشها أولاً، ثم بين شعوبها، لإخضاع الجميع ثالثاً لمشروع التقسيم الصهيو أميركي لـ"الشرق الأوسط الكبير"!

إن النهج الواحد والواضح في كل هذه المشاهد في دول الربيع، هو أن اللاعب الشرير الكبير يمسك بخيوط عرائس المارونيت المحلية والإقليمية، ومن وراء الستار يحرك هذه الدمى لتفجير الأوضاع في شرقنا العربي والإسلامي، وفي عواصم الحضارة العربية والإسلامية بالذات، في اتجاه الفوضى الأهلية الدامية ليتحقق الهدف النهائي وهو التقسيم والهيمنة، ولهدم هوية هذه الأمة.

وبينما لا تزال المعارك مستمرة بكل الأسلحة السياسية والطائفية والمذهبية والعرقية، يبقى الإدراك العميق بأن للقوة المسلحة حدوداً تفقد بعدها أي تأثير، وأن الحروب الأهلية أو الدولية لا منتصر فيها، بل الكل فيها خاسر، وأن الحوار بقوة المنطق وفق الحق والعدل، أقوى من الحوار أو الاقتتال بمنطق القوة.

 

الأكثر مشاركة