حتى لا يغيب الحوار عن الحوار

إذا كان من المهم أن نعرف كيف نختلف، لنعرف بالتالي كيف نتوافق أو نتفق، فمن الأهم أن نعرف كيف "نتحاور" عند الاختلاف، وكيف "نتشاور" عند الاتفاق، خصوصا عندما تتمسح الأطراف جميعا بالأشكال الديمقراطية للسياسة، أو بالدعوات الشكلية للحوار.

وفي الوقت الذي نشهد فيه دعوات مخلصة، وساحات راقية، وقواعد محترمة للحوار حول قضايا وطنية سياسية أو فكرية أو مجتمعية يسود فيها الوفاق، ويحترم فيها الاختلاف، ويتواصل فيها الحوار لتوسيع مساحة الاتفاق، وتضييق هوة الاختلاف.. نلحظ في بعض الأحيان مؤتمرات سياسية، أو برامج إعلامية ترفع لافتات الحوار.

بينما يغيب فيها الحوار عن الحوار ويحل الشجار، ويتحول في النهاية إلى نوع من الإملاء من طرف على طرف، أو نوع من "المونولوج" من طرف واحد في غياب الطرف الآخر، وهذه الحالات المفروضة والمرفوضة، لا يمكن أن ترقى إطلاقا إلى مستوى الحوار.

وسواء في مؤتمرات السياسة أو في برامج الإعلام، فإن للحوار قواعد وأصولاً، وتغييب هذه القواعد أو غياب تلك الأصول، يؤدي إلى الفشل في التوصل إلى أي حل لأي مشكلة، وأيضا إلى عدم إقناع الرأي العام بأي نوع من المصداقية أو المسؤولية.

فمن البديهي أولا أن الحوار الحر لا يكون إلا في مناخ حر، وإلا بين أطراف مختلفة، بعكس التشاور الذي يكون بين أطراف مؤتلفة.. وبالتالي فحينما يعقد مؤتمر لحوار من أجل المصالحة الوطنية مثلا، ويشترط فيه بعض الأطراف عدم حضور طرف من الأطراف المتخاصمة معها، بحجة مثيرة للدهشة هي أنها ترفض التحاور معها لأنها ترفض الاعتراف بها، فمع من سيجري التحاور في مثل هذه الحالة؟ وكيف يمكن أن تنجح عملية المصالحة؟ إلا أن يكون المقصود هو التشاور بين المتصالحين لإقصاء الآخرين!

ومن هنا فإن أولى قواعد الحوار هي حضور كل أطرافه، بغير إقصاء أو تهميش.. ومن الطبيعي ثانيا أن يتاح فيه لكل طرف، وبقدر متساو من الحرية والندية، عرض رؤيته وحق الدفاع عنها دون إرهاب فكري، أو كبت عملي، أو تزييف إعلامي للصورة.

وثالثا، أن يكون الحوار موضوعيا يعتمد على حسن العرض، مع بيانات تسانده لدعم وجهة النظر بما يؤكدها، دون إغفال لحق الطرف الآخر في الرد والتفنيد بحجج منطقية، ومعلومات قابلة للإثبات. من غير اتهامات دون مستندات، أو تجريح شخصي يخرج عن الموضوعية.

و"لأن الضجيج ليس وجهة نظر" كما يقول المثل الإنجليزي، فإن الحجة الضعيفة لا يمكن للصوت العالي أن يقويها، وإن الحديث غير المنطقي لا يمكن للضجيج أن يجعله مقبولا.

ولأن برامج الحوار السياسية أو الإعلامية هي شيء أرقى من برامج الترويج الانتخابية أو التسويق الدعائية الفجة، فمن المتوقع أن تكون أهدافها شيئا أرفع بكثير من مجرد الترويج أو التسويق مع أو ضد، إلى أهداف تسعى لتنمية التفاهم المتبادل بين المتحاورين، والتوصل لنقاط اتفاق تتجاوز بكثير نقاط الخلاف بين المختلفين.

بعد ذلك يبقى على كل طرف من أطراف الحوار، أن يطبق على الآخر ما يريده أن يطبقه عليه، فيحسن الإصغاء، ويحسن الرد، ويضبط النفس واللسان، ويحسن البيان، ويفترض أن رأيه صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ يحتمل الصواب، ويتحلى بالقدرة على التراجع والاعتراف بالخطأ، مدافعا عن حق خصمه في الرأي والتعبير عن رأيه.

فبغض النظر عن رأي "فولتير" في هذا الصدد، فإن سيادة مثل هذه القاعدة تجعل كل الأطراف مدافعة عن حق الجميع في التعبير عن رأيه.. بهذا لا يتحول الحوار إلى شجار، ولا يغيب الحوار عن الحوار!

كما أن المؤتمرات السياسية للحوار الوطني التي شهدتها عدة بلدان عربية مؤخرا، من بينها مصر وسوريا والعراق واليمن، سواء منها من امتلك شروط النجاح فأمكنه التوصل إلى النتائج الإيجابية، أو من افتقد شروط الحوار فتجمد المسار، إنما تنطلق جميعها من قناعة بضرورة الحوار، باعتبار أن الخلافات السياسية لا تحل بالوسائل الأمنية، وأن إغلاق قنوات الحوار السلمي، يفتح الباب للحوار غير السلمي.

وانتشار موجة البرامج الحوارية متعددة الأطراف، على شكل ندوات للحوار في القنوات الفضائية الداعية للحوار، والتي تتواكب مع المد الديمقراطي، إنما يعكس التعددية السياسية والثقافية لقوى مختلفة، من حقها التعبير عن نفسها في عصر يرفع شعارات الشفافية واحترام الرأي الآخر والحرية والسماوات المفتوحة، ويسعى الجاد منها إلى تأكيد التقاليد الديمقراطية، التي هي في تصور سهل تعني حق الاختلاف السياسي، واحترام حق التعبير عنه..

أي حسن إدارة الاختلاف بإجادة إدارة الحوار العام. وذلك في إطار الائتلاف الوطني، وفق آلية تنظم هذا الاختلاف دستوريا وقانونيا، بما يؤمن عملية تداول السلطة عن طريق الاحتكام إلى رأي غالبية الشعب، واحترام ما تعلنه نتائج صناديق الاقتراع، واحترام استقلال وأحكام القضاء.

وهذا يدعونا جميعا، أولا، إلى احترام حقوق الحرية في الاختلاف والاعتقاد والتعبير والاختيار، وحق المشاركة في القرار، لأن الاختلاف هو طبيعة الكون وطابع الحياة، ومن هنا تتعدد المعالم الطبيعية والإنسانية، وتختلف الفصول، وتتعدد الأشكال والألوان واللغات، وتختلف الأجناس والأديان والثقافات، بما يدفع حركة الحياة بالتكامل والتفاعل نحو التقدم والدوام.

ولأن الائتلاف في المقابل هو الإطار الذي ينظم الوجود، وتنتظم في داخله كل العناصر المختلفة بصورة متكاملة ومتفاعلة، بما يصنع من الألوان المتعددة لوحة تشكيلية جميلة، وبما يصنع من الأصوات المتعددة سيمفونية منسجمة.. لأن ذلك كله صحيح، يصبح الاختلاف هو المقدمة، والائتلاف هو النتيجة، حيث "لا ائتلاف بغير اختلاف".

والعناصر المختلفة كلها هي بالطبيعة في حالات من الحوار الذي لا يتوقف، مهما تعددت لغات الحوار بينها، سواء كان حوارا بالكلمات في السياسة، أو باللكمات في الشجار، أو حوارا بالنيران والحروب.. وإذا توقف الحوار بلغة الكلمات في السياسة، تحول إلى لغة اللكمات في الشجار، وتواصل الحوار بلغة أخرى هي لغة الطلقات في الحروب.

ولأن السلام هدف للشعوب بعيدا عن تجار الحروب، فإن الحوار مع الآخر شريك الوطن، أو بين الثقافات المختلفة كشركاء في الإنسانية، يبدو هو الحل لمشاكل الجهل بالنفس، والجهل بالآخر، بعيدا عن دعاة الصدام بين الثقافات والأيديولوجيات والحضارات.

 

الأكثر مشاركة