عقد المركز العربي للبحوث ودراسة السياسات في الدوحة، يومي 10-11 إبريل 2013، مؤتمرا دوليا شاركت فيه عدة شخصيات من قادة سياسيين وأساتذة أكاديميين ومراقبين دوليين، لمناسبة مرور عشر سنوات على احتلال الولايات المتحدة وحلفائها للعراق عام 2003.

وقد عولجت في جلسات المؤتمر جوانب الاحتلال الذي أسقط النظام السياسي السابق، وتأثيراته وتداعياته، ليس على العراق نفسه فحسب، بل على كل المنطقة التي تأثرت بحالة الفوضى والتشرذم التي مرت بالعراق تحت مسميات شتى.

وكانت أميركا قد فشلت في إحكام قبضتها على العراق، بفعل ردود الفعل القوية التي جابهتها في كل أصقاع البلاد، ومقاومة الاحتلال الذي أساء كثيرا للعراق والعراقيين، باستثناء إقليم كردستان الذي تمتع بهدوء كبير، مقارنة بما حدث في بقية أنحاء العراق من انقسامات وتشظيات غاية في الخطورة.

بعد عشر سنوات على ذلك "الحدث التاريخي" الذي شدّ الدنيا، بدا العراق دولة فاشلة ومجتمعا منقسما، وتمكّنت "الفوضى الخلاّقة" في أوصاله، بعيدا عن كلّ ما استخدم من زيف وأكاذيب في العمليّة السياسيّة التي طبقوها، مرورا بإصدار دستور لا تتّفق بنوده وتقدّم العراق والعراقيين، بسبب إصرار الإدارة الأميركيّة على تأسيس نظام سياسي يقوم على المحاصصة الإثنية والطائفية، وتغييب دور كل النخب السياسية الحرّة والمجموعات المثقفة المدنية، واعتماد الأحزاب الدينيّة والإثنيّة التي أضرّ حكمها بالعراق كثيرا، ذلك أن عناصرها التي حكمت العراق لم تفهم معاني الديمقراطية، ولم تدرك أبسط القواعد السياسية في الحكم والإدارة، ولم تقرأ شيئا عن العراق ولا عن العراقيين، فضلا عن إبقاء علاقاتهم مع بعض الأنظمة الإقليمية التي كانت قد احتوتهم سياسيا..

كان البعض من العراقيين يتوّهم أن العراق سيتقدّم على اليد الأميركيّة من خلال مشروع إعمار، لا سيما في المجال العلمي والتكنولوجي، وخصوصا ما خربته الآلة العسكرية الأمريكية.. ولكن خابت الظنون جراء السياسات العقيمة التي اتبعها بول بريمر، وما تأسس على يديه من تقاليد ومفاهيم واتفاقيّات، إذ لم يكتف بسياسة المحاصصة التي أسموها بـ"التوافقية"، بل صفقوا للفيدرالية، ونودي لعدة مشروعات بجعل العراق عدّة أقاليم كرسها الدستور كمبادئ، وعادوا اليوم ينكرونها، ليس باعتبارها نقيضا للمواطنة العراقية، بل لأنها تصطدم ومصالحهم..

ولقد أدت السياسات العقيمة التي استخدمتها وباركتها الولايات المتحدة، إلى خلق الفوضى، وعطب الأمن الداخلي، وانتشار الفساد انتشارا مذهلا، وتفشي الأمراض السياسية والاجتماعية والاقتصادية، في ظل انعدام أية خدمات، وانشغال أغلب السياسيين والمسؤولين الكبار والصغار بنهب المال العام وعقد الصفقات المشبوهة، والاشتراك في الجرائم السياسية والمالية!

عشر سنوات والشعب العراقي يعيش مأساة التمييز الطائفي والأحقاد الإثنية، التي كان لا بد أن تكبت نهائيا بإعطاء كل ذي حق حقه، وتوفير فرص الحياة العراقية المنطلقة من أسس مدنية وحضارية، والإعداد لمشروع وطني مع الحفاظ على المؤسسات الحيوية في البلاد، وإبعاد أية تدخلات خارجية إقليمية أو دولية في داخل العراق، فضلا عن الحفاظ على استقلالية القضاء ونزاهته، مع إدارة ذكية للأزمات وحل المشكلات.

إن الولايات المتحدة التي لم تكن مستعدة لتولّي إدارة العراق، وتحمّل مسؤولية الحفاظ على السلم والنظام في أعقاب انهيار تام للمؤسسات الحكومية، لم تضع خطّة استراتيجيّة لمستقبل العراق، بل أسهمت في تدمير العراق بنيويا، ولم توافق البتّة على أي مشروع وطني يقوده أناس يدركون قيمتهم ودورهم في قيادة العراق.

إن المسؤولية الأولى تقع على سلطة الاحتلال التي أسهمت في انزلاق البلد نحو الفوضى وانعدام القانون، والاعتماد على ساسة عراقيين أغلبهم من الطائفيين والمتعصبين، إذ لم يعرف أحدهم إدارة بيته، فكيف به وقد أصبح العراق لعبة في يديه؟ فازداد الفساد، وعمّت الفوضى، وافتقد الأمن، واشتعل الإرهاب، وسقط آلاف الناس الأبرياء، مع انعدام الإعمار وانتفاء الخدمات، وماتت كل الآمال والأمنيات التي انتظرها العراقيون لأكثر من خمسين سنة.. ولمّا يزل العراق حتى اليوم، وبعد مرور عشر سنوات على احتلاله، يتراجع يوما بعد آخر، من دون أيّة بادرة حقيقية لإنقاذه من هذه الورطة التاريخية القاسية.. بل إن السنوات العراقية الصعبة، كانت لها تأثيراتها وتداعياتها على كل المحيط والمنطقة العربية بأسرها.

إن أحد أكبر الأخطاء التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق، يتمثل بترتيب النظام السياسي الحالي ضمن ما أسموه بـ"العملية السياسية"، التي بنيت على أسس طائفية مقيتة، حيث اعتقد الأمريكان متوهّمين أن المجتمع العراقي كان منقسما بطبعه حسب الأنساق الطائفية والإثنية، من دون مراعاة لنصائح عراقيين مستقلين، بل الانصياع لما يقوله هذا المرجع الطائفي أو ذاك المتخلّف السياسي.

وعليه، فقد كرّس هؤلاء نفوذهم، وسيطروا مع أحزابهم وميليشياتهم على كل مرافق الدولة وممتلكاتها، واستغلوها استغلالا بشعا، مع فسادهم وانعدام كفاءتهم، فضلا عن خنوعهم لبعض القوى وأجندتها السياسية في العراق والإقليم.

فمتى يبدأ الزمن المغاير في العراق؟ متى تنتهي المأساة في العراق؟ متى تتخلص "الدولة" من فشلها وعجزها؟ متى يتخلص المجتمع من انقساماته؟ متى تتغير العملية السياسية الحالية إلى مشروع وطني جديد يقود البلاد والعباد إلى المستقبل؟

إنني واثق تمام الثقة من أن هذه المرحلة التاريخية الصعبة ستمضي إلى حتفها، وسوف يستعيد العراق دوره الحضاري، من خلال القضاء على كل أجندات سنوات الخراب، ليبدأ مشروعا سياسيا وطنيا، وسيعمل العراقيون على تغيير الدستور وإصدار قوانين مدنية وتشريع قانون الأحزاب على أسس وطنية ومدنية وسياسية حقيقية، تبعد التدخلات الأجنبية وتكرس همومها لمشروع وطني عراقي ديمقراطي حقيقي، بعيدا عن كل التناقضات.

متى سيأتي ذاك اليوم؟ ربما سيتأخر قليلا.. لكنه آت حتما، وإن غدا لناظره قريب.