كانت تجربة ثرية تلك الرحلة الميدانية التي جمعتني بعدد من كتاب الرأي والإعلاميين الإماراتيين والعرب المقيمين في الإمارات. في صبيحة يوم الخميس الموافق 11 من الشهر الماضي، اجتمعت وفريقي مع ضيوفنا الإعلاميين قبل الانطلاق في رحلة ميدانية إلى القرم الشرقي.

وكم كنت في غاية السعادة وأنا أستمع لأسئلة وتعليقات ضيوفنا من الوسط الإعلامي حول أشجار القرم ولماذا نكثف الجهود لرعايتها وحمايتها. فعلاً.. لماذا القرم؟

هناك ثروات طبيعية متوارية عن الأنظار رغم تأثيرها الكبير في التنوع البيولوجي ودورها المهم في توازن الطبيعة. من هذه الثروات شجر القرم. تدل كلمة القرم على مجموعة من الأشجار والشجيرات المتحملة للملوحة المرتفعة ذات الأخشاب والأوراق دائمة الخضرة، والتي تنمو في بيئة عالية الملوحة كالأراضي الطينية.

تشكل بيئة ساحرة تربط ما بين البيئة البرية والبحرية، وتقع في المناطق الواقعة بين المد والجزر. تمثل هذه الأشجار جسراً واصلاً بين الأنظمة البيئية التي توجد في البر والبحر، وهي موئل للكثير من الكائنات الحية.

لدينا في إمارة أبوظبي القرم الشرقي، ولشجرها قيمة لا تقدّر بثمن، وذلك لأسباب تتلخّص بثلاثة مستويات: المستوى الحضاري، والاقتصادي والبيئي. تتمثّل قيمتها الحضارية بأنها ارث وطني أرساه فينا المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان.

حيث كان حريصاً على زرع أشجار القرم في هذه المنطقة إدراكاً منه لأهميتها البيئية، وتعلّق بها أجدادنا بسبب دعمها لحياتهم اليومية، فكانت أوراقها تستخدم كعلف للجمال، خاصة في أوقات الجفاف، وجذوعها كخشب للوقود وبناء السفن وذلك بسبب صلابتها المعروفة عنها ومقاومتها للتعفن. أما قيمة أشجار القرم الاقتصادية فتتمثّل في كونها محضنا طبيعيا للأسماك والقشريات، وقُدّرت قيمتها الإنتاجية في السنة بمئات الآلاف، كما أنها مورد للسياح والمهتمين لرياضة التجديف.

على المستوى البيئي، فإن قيمة أشجار القرم المزروعة في المنطقة الشرقية تفوق قيمة أية شجرة من نفس الفصيلة مزروعة حديثاً، وذلك بسبب عمرها الذي يتراوح ما بين 40 و50 عاماً الذي جعلها على قدرة عالية جداً في تخزين وعزل الكربون بشكل مستمر وبمعدلات تفوق الأشجار المزروعة حديثاً.

كما تعمل هذه الأشجار بفضل موقعها على أول خط الساحل كحاجز طبيعي يحمي الشاطئ من عوامل التعرية والتآكل ونحر البحر. حتى ان الظاهرة المفجعة التي ضربت مناطق جنوب غرب آسيا قبل بضعة أعوام والمعروفة باسم تسونامي، لم تتمكّن من هذه الشجرة، وقد تبيّن لاحقاً أن شجر القرم كان تصدى للأمواج العالية، ما خفّف من نسبة الأضرار بشكل كبير.

إذا اتّبعنا أحد منهجي التعريف عن الطبيعة: المنهج "النفعي" الذي يعتبر الطبيعة مجموعة من الموارد جاهزة للاستهلاك البشري، أومنهج "القيمة الذاتية" والذي يرى ان الطبيعة جزء لا يتجزّأ من الإنسانية، حيث إن البشر بصفتهم كائنات بيولوجية هم جزء من الطبيعة، فسنجد أن الحفاظ على شجر القرم غاية سامية من الناحيتين النفعية والإنسانية.

فعلى المستوى الأوّل إن فائدة هذه الأشجار لمسها أجدادنا من قبل، ونحن اليوم نقيّم فوائدها الاقتصادية والبيئية، وندرك أن لا قيمة نقدية توازي منفعتها. وعلى المستوى الإنساني وارتباطنا بالطبيعة من الناحية البيولوجية، فإن هذه الأشجار تدعم التنوّع البيولوجي، بل وتثريه، حيث توفر موطناً مهماً يحتضن العديد من أنواع الطيور البحرية وأنواع أخرى من الأحياء البحرية، حيث تعتبر حاضناً طبيعياً للثروة السمكية وللقشريات في الإمارات.

وبالرغم من زيادة مساحة غابات القرم في الإمارة، إلا أن هناك بعض المواقع التي تأثرت فيها هذه الأشجار بشكل سلبي نتيجة النشاطات البشرية، مثل شق الطرق وحفر القنوات المائية. كما أنها تحت ضغط كبير من قبل مطوري المشاريع لإزالتها والاستيعاض عنها بمبان، خاصة أنها تتمتع بإطلالات جذابة. نحن نعمل في هيئة البيئة- أبوظبي على دعم برامج زراعة وتأهيل أشجار القرم.

حيث يسهم هذا النوع من مشاريع التشجير في تخفيف الآثار الناجمة عن التجريف وتآكل التربة وخسارة المواطن الطبيعية. وكانت الهيئة قد قامت بتنفيذ آخر البرامج الناجحة لزراعة أشجار القرم قبل نحو عامين، حيث تمت زراعة 800 ألف شجرة في جزيرتي السعديات وجبيل.

وبدأنا هذا العام برنامجاً لزراعة مليوني شتلة على سواحل إمارة أبوظبي. دورنا لا ينتهي هنا، فنحن مسؤولون عن حماية هذه الأشجار من خلال دوريات تفتيش لمواقعها وقد استطعنا إنقاذ ما يقارب 60.000 متراً مربعاً من أشجار القرم في إحدى الجزر بعد ان كشفت تقارير المفتشين البيئيين عن خطة أحد المطورين لتنظيف المنطقة بهدف توسيع القناة المائية.

وقد تم اكتشاف هذه المخالفة من قبل مفتشي الهيئة خلال زيارة روتينية لموقع المشروع. وقد ألزمت الهيئة المطور بتقديم خطة لإدارة أشجار القرم في موقع المشروع كإجراء تعويضي لإعادة تأهيل المناطق المتضررة من خلال زراعة أشجار قرم جديدة في المنطقة.

في ختام رحلتنا إلى القرم الشرقي، وبعد أن أبدى عدد من ضيوفنا الإعلاميين إعجابهم بما شاهدوا، تأمّلت مع زملائي كم نحن محظوظون بسبب ارتباط حياتنا الوثيق بالبيئة؛ دورنا في هذه الحياة هو حماية بيئتنا، فلنتوحّد معها ونصبح جزءاً منها، وهذا ما يدفعنا لتكريس عملنا وجهودنا لها لأن قيمتها الفعلية تكمن في قيمتنا نحن كبشر موجودين على الأرض الآن وفي المستقبل.