الاتفاق الروسي الأميركي والأزمة السورية

لم يكن مفاجئا تماما للمراقبين لتطورات الأزمة السورية، الإعلان في موسكو عن اتفاق روسي أميركي على العمل المشترك لعقد "مؤتمر دولي لحل الأزمة السورية على أساس اتفاق جنيف"، بما يعني توصل قمة النظام الدولي إلى تضييق هوة الخلاف بينهما على تفسير اتفاق جنيف، وإقرار قطبي الشرق والغرب على سقوط المراهنة على الحل العسكري خارجيا وداخليا..

وعلى الإقرار بالحل السياسي بين النظام السوري والمعارضة المسلحة، بالمفاوضات والحوار بالأفكار بديلا عن الحوار بالنار كخيار جبري، بما يعني الاعتراف بمشروعية المعارضة وبشرعية النظام، ضمن حقائق عديدة فرضها المنطق والتاريخ والمسار والميدان، على المستوى الدولي والإقليمي والوطني السوري، رغم تباين الرؤى تجاه الأزمة واختلاف الاصطفاف مع أطرافها المتقاتلة!

لكن المفاجأة جاءت من سرعة الاعتراف الأميركي العملي بهذه الحقائق، رغم سابق الإقرار النظري بها في اتفاق "جنيف 1" الذي وقعه نهاية العام الماضي وزراء خارجية الدول الخمس الكبرى صاحبة الفيتو في مجلس الأمن، بعد انقسامه على مدى عامين بين موقفين متضادين يعكسان اختلاف المبادئ والمصالح للجانبين..

جانب غربي، مع الحل العسكري داخليا وخارجيا، وإسقاط النظام بالقوة، ودعم المعارضة المسلحة، ويضم أميركا وبريطانيا وفرنسا. أما الجانب الثاني فشرقي مع الحل السياسي وسوريا الدولة ذات السيادة، وعدم التدخلات الخارجية في الشؤون الداخلية للدول أو إسقاط نظم الحكم بالقوة المسلحة، ويضم أساسا روسيا والصين.

كما جاءت المفاجأة من تحرك الرؤية الأميركية نحو الرؤية الروسية، بدليل تحرك وزير الخارجية الأميركية جون كيري إلى موسكو للقاء وزير الخارجية الروسية سيرغي لافروف، للبحث عن حل مشترك برؤية وعمل مشترك. وهذا يعكس أن المراهنة الأميركية على السلاح انتظارا لتغيير موازين القوى لصالح المعارضين لم تتحقق، وأن الرياح لم تأت بما كانت تشتهيه السفن الأميركية!

فما هي الدوافع العاجلة التي سرعت بهذا التحول والتحرك الأميركي المفاجئ؟

الدافع الأول، هو واقع المعارضة نفسها، لتصدر مشهدها الميداني من قبل جماعات مقاتلة متطرفة ترتبط بالقاعدة، ولفشلها على مدي عامين في تحقيق هدفها المعلن بإسقاط النظام، وبانقساماتها السياسية والطائفية والمذهبية والعرقية، وبين معارضة داخلية توافق على الحل السياسي، وخارجية تريد السلاح ومواصلة الاقتتال..

ولهذا، فبدلا من سقوط رأس النظام الذي بقي متماسكا، أضحى الائتلاف السوري بلا رأس بعد استقالة معاذ الخطيب، بينما رأس الحكومة غسان هيتو ظل بلا حكومة منذ تعيينه، بما يخصم من أهليتهما في تمثيل معارضة الداخل أو الخارج، بينما نجحت المعارضات السلمية في تونس ومصر، بوحدة كل القوى الشعبية والوطنية، في تحقيق هذا الهدف في أيام فقط، بلا سلاح ولا اقتتال!

فلم تحقق المعارضة والجيش بالاقتتال سوى عشرات الآلاف من القتلى، ومئات الآلاف من المصابين، وملايين اللاجئين والنازحين من المدنيين، ونزيف الدم السوري، وتدمير البني الأساسية للدولة، وتخريب المدن والقرى، واستنزاف قدرات الجيش السوري، بما فتح الطريق للعدوان الصهيوني العسكري.. وليس سرا أن هذا كله كان هدفا إسرائيليا أميركيا وغربيا!

والدافع الثاني، هو العدوان الإسرائيلي على دمشق، بما أثاره لدى كل من موسكو وطهران ودمشق من ضرورة الرد العسكري، وما أثاره مثل هذا الرد لدى واشنطن وحلفائها، من مخاوف جادة من احتمالات وتداعيات خارج السيطرة، أخطرها فتح الأبواب لحرب إقليمية شاملة، تحرق المنطقة كلها وأولها إسرائيل ذاتها، مع دخول تركيا وإيران جبريا.

ومع تورط لبنان والعراق والأردن إلى تلك الحرب، بوقود مذهبي وعرقي لحريق كبير غير قابل للانطفاء! مع خوف أميركي منطقي على أمن حليفتها الاستراتيجية وقاعدتها العسكرية إسرائيل، بعد المغامرة الخطرة بغارتها على دمشق، وعلى مصير حلفائها الإقليميين تحسبا من رد الفعل الذي بدا قريبا وخطيرا من مثل تلك الحرب..

وهناك خوف روسي وأميركي مشترك، من أن وقوع مثل تلك الحرب الإقليمية لن يدع لهما من خيار إلا المواجهة السياسية والعسكرية، بما قد يفتح الباب لحرب عالمية بين الشرق والغرب لا يعلم مداها ولا يقدر نتائجها أحد. لكل ذلك سارعت واشنطن وموسكو لمحاولة فرملة ردود الأفعال السورية والتداعيات الإقليمية، حتى يلتقي الوزيران الأميركي والروسي في موسكو.. وليس سرا أن تحذيراً روسياً لتل أبيب وجهه الرئيس بوتين هاتفيا لنتنياهو، مع دعوة دمشق لضبط النفس.

وآخر أمريكي وجه لتل أبيب هاتفيا من الرئيس أوباما إلى نتنياهو، قبل تسارع التواصل مع موسكو للتفاهم على الحل.. وتلا ذلك ترحيب صيني وأوروبي وعربي بالمؤتمر، وسارع رئيس الحكومة البريطانية كاميرون إلى موسكو للتشاور مع الرئيس الروسي بوتين، ومنها إلى واشنطن، بينما سارع نتنياهو قبل يومين بالسفر إلى موسكو لمحاولة وقف تزويد سوريا بالصواريخ الروسية إس 300!

لكن خيار الحل السياسي عبر المؤتمر الدولي لم يكن محل ترحيب لدى بعض الأطراف، فسعت إلى وضع الدواليب في العجلات لمحاولة وقف التحرك. غربيا، لوحت بريطانيا مجددا بورقة استخدام النظام السوري للسلاح الكيماوي، وساهمت تركيا في ترديد ذلك الادعاء لدفع أميركا التي تعتبر ذلك خطا أحمر للتدخل، مثلما سبق وأعلن بلير عن "أدلة مؤكدة" على امتلاك العراق للسلاح النووي وثبت كذبه! كما وقع التفجير الإرهابي في "الريحانية" ورقة لاتهام سوريا رغم عدم انتهاء التحقيقات..

وفيما ارتبكت المعارضة السورية بين مؤيد للمؤتمر الدولي ومعارض إلا بعد سقوط النظام، وبين من لم يحدد موقفه بعد.. تبقى التساؤلات مطروحة؛ هل سيعقد المؤتمر الدولي رغم العراقيل، وهل ستتوفر له فرص النجاح؟ أم سيستمر نزيف الدم السوري بغير نهاية، وبكل معاناته الإنسانية، ويظل الحريق مشتعلا بكل آثاره المدمرة وتداعياته الخطيرة، ليس على سوريا وحدها وإنما على المنطقة كلها؟!

دعونا ننتظر بأمل..

 

الأكثر مشاركة