صحة الرئيس بين حق المعرفة وأمن الدولة

ت + ت - الحجم الطبيعي

في الأسابيع القليلة الماضية، اختلط الإعلام بالشائعة والدعاية والتلاعب وإثارة البلبلة وتصفية الحسابات، في قضية صحة الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة. فغيابه عن الأنظار والنشاط الرئاسي لفترة زمنية، فتح الشهية أمام المتربصين بمثل هذه الظروف، لمختلف التأويلات والقراءات والتكنهات والشائعات الفضفاضة، والشائعات الكاذبة.

 فمنهم من ذهب بعيداً للخروج عن آداب وأخلاقيات الممارسة الإعلامية، للدخول في التلاعب والتخمين. فالرئيس الجزائري الذي دخل مستشفى "فال دو غراس" في فرنسا قبل أسابيع، أثار فضول العام والخاص، وفتح شهية وسائل الإعلام للتفنن في التخمين والتأويلات العديدة، والشائعات والتحليلات والتفسيرات التي قد يخرج بعضها عن الكياسة والعمل الصحافي المهني المسؤول.

إشكالية صحة الرئيس تثير تساؤلات عدة، من أهمها: هل يحق للشعب التعرف إلى الحالة الصحية لرئيس الدولة وتفاصيل المرض وسبل العلاج ونسبة نجاح العلاج والتعافي؟ أين هي المصالح الإعلامية في ديوان الرئاسة لتوفير المعلومة وإخبار وسائل الإعلام والرأي العام بالحقائق، لإنهاء كل عمليات التلاعب واستغلال انعدام المعلومة لتضخيم الموضوع أو التأويلات والتخمينات المغرضة والخاطئة؟

ما هي نية وأهداف المؤسسات الإعلامية من التهافت على أخبار صحة الرئيس؟ هل الهدف هو الاستجابة لحق الشعب في المعرفة وتوفير المعلومة للجمهور كواجب لا جدال فيه؟

أم الهدف هو استغلال الظروف غير الطبيعية في ديوان الرئاسة وانعدام المعلومة، لتحقيق السبق الصحافي وإبراز إمكانات الجريدة وقدراتها على التعامل مع الظروف وقراءتها، رغم التعتيم الإعلامي من قبل المصالح الإعلامية في الرئاسة؟ وهل الهدف هو توظيف الحدث لخدمة جهات معينة أو أهداف سياسية محددة، قد تتعارض مع المصلحة العامة وقد تخالف الممارسة الإعلامية المسؤولة؟!

إذا انطلقنا من أن للشعب الحق في معرفة الحالة الصحية للرئيس، فلماذا التعتيم؟ ولماذا سكوت الجهات الرسمية المختصة وعدم توفير المعلومة للجمهور؟ فالقاعدة في علم الاتصال تقول إنه إذا انعدمت المعلومة انتشرت الإشاعة. وفي هذه الحالة فإن النظام الجزائري ما زال، مع الأسف الشديد، لم يتمكن من التحكم في مفاصل الاتصال السياسي .

وفي آليات العمل الإعلامي السياسي على مستوى السلطة، وعلاقة الرئاسة بالمؤسسات الإعلامية وبتوفير المعلومة للجمهور. فغياب رئيس الدولة عن الظهور يمكن تأويله بطرق مختلفة وقراءات عديدة، كما أنه يثير فضول العام والخاص في البلد.

أما إذا كانت السلطات الرسمية لا تؤمن بأن الشعب له الحق في معرفة الظروف الصحية للرئيس وغيابه عن الظهور، فالموضوع هنا يطرح إشكاليات أخرى، من أهمها أن هذا الموقف يتناقض جملة وتفصيلا مع واقع العولمة والمجتمع الرقمي، الذي يفرض نفسه في جميع أنحاء المعمورة. ففي عهد الإنترنت، تعتبر عملية حجب المعلومات والتعتيم والرقابة إجراء غير سليم وغير صحي.

ولا يتناغم مع معطيات العصر ومع الانفتاح الإعلامي والمعلوماتي. وبذلك فإن عملية التعتيم والتهرب من المسؤولية وعدم توفير المعلومة، تضر بالنظام الجزائري أكثر مما تفيده. فالتعتيم يعني إعطاء الفرصة للإشاعة وإثارة البلبلة والتلاعب، وتقديم معلومات قد تكون غير صحيحة. فلماذا ما زال السلطات في الجزائر تصر على ممارسات أصبحت من ذاكرة التاريخ ولم تعد تتناسب منطق الألفية الثالثة؟!

أما بالنسبة للجانب الآخر لإشكالية التعامل إعلاميا مع الحالة الصحية للرئيس، والمتمثل في المؤسسات الإعلامية؛ فهل يحق لهذه المؤسسات أن تتعامل مع القضية بنشر الشائعة والمعلومات غير المؤكدة والتأويلات، وفي بعض الأحيان التلاعب والتضخيم، ليس بهف خدمة الحقيقة وخدمة الرأي العام والقيام بواجب الإبلاغ والإخبار، بل من أجل خدمة مصالح حزبية أو فئوية خاصة، فبعض المؤسسات الإعلامية لم تتعامل مع الحالة الصحية للرئيس بوتفليقة بالمهنية والحرفية وروح المسؤولية، التي يجب أن تحكم التعامل مع مثل هذه القضايا.

فالمسؤولية الاجتماعية في العمل الإعلامي، تفرض على الصحافي وعلى المؤسسة الإعلامية التعامل مع موضوع كموضوع الحالة الصحية للرئيس، بمسؤولية كبيرة جداً، وفق أخلاقيات العمل الإعلامي والمصلحة العامة، ودون مساومة أو تلاعب وابتزاز، واستغلال المهنة لتحقيق أهداف ومصالح خاصة.

فالحالة الصحية لرئيس أي دولة في العالم، ليست بالبساطة التي يتصورها الكثيرون، فالرئيس ليس أي شخص في المجتمع، وصحته تهم الأمن القومي والاستقرار الوطني، وهو رمز السلطة.. لذلك فالتعامل مع موضوع صحة الرئيس إعلاميا، يجب أن يكون مسؤولا ويتسم بالحرفية والمهنية والأخلاق، وليس الشائعة وإثارة البلبلة والتلاعب. فحتى الدول العريقة في الديمقراطية تعاملت وتتعامل بنوع من الاحتراز والتحفظ مع مرض رؤسائها، وخير مثال على ذلك الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران.

انتشار الشائعات في المجتمع وترويجها عبر وسائل الإعلام العصرية والحديثة، كالصحف والمجلات والإنترنت والفضائيات والمحطات الإذاعية، ظاهرة غير سليمة وغير صحية، تعني تلوث ومرض الرسالة المقدسة للصحافة والهدف النبيل للبحث عن الحقيقة وكشفها للرأي العام.

فبدلا من تنوير الرأي العام وإبلاغه وإخباره بالحقائق وتزويده بالمعلومات الصحيحة، أصبحت وسائل الإعلام تساهم في "تلويث" الرأي العام وتزويده بالشائعات والأكاذيب والخرافات. فتقاطع الشائعة مع الخبر الصحفي، يعني وجود خلل في المعايير والقيم داخل المجتمع، ومشكلة عويصة في المنظومة الإعلامية. فإلى متى تبقى وسائل الإعلام في بعض الدول العربية عرضة للتطفل والاستغلال والابتزاز والتلاعب؟

من جهة أخرى، ليس من حق السلطات الجزائرية مصادرة صحيفة "جريدتي" وإحالة مديرها على العدالة، بسبب تناولها موضوع صحة الرئيس، فمن حق الشعب الجزائري الذي اختار الرئيس وصوّت عليه، أن يتعرف على أوضاعه الصحية.

على الجميع أن يعلم أن ممارسات التعتيم والرقابة والتسلط قد ولى عهدها، وأن التاريخ أكد من خلال العديد من التجارب، أنه لا جدوى من ورائها.

 

Email