مع الانسداد السياسي في الشارع المصري، بات السؤال المطروح بقوة: هل الخلاص من المأزق الحالي يتمثل في عودة العسكر إلى الحياة السياسية؟ وإذا كان ذلك فبأي آلية يمكن أن تحدث تلك العودة؟ هل بالانقلاب على الشرعية أم من خلال المحافظة على الدولة من الانهيار حال حدوث القارعة المتمثلة في الاقتتال الأهلي والصراع الداخلي؟ وقبل عودة العسكر، هل لا بد من حدوث صدام مع جماعة الإخوان المسلمين كشرط لتحقيق العودة المرغوبة اليوم من قطاع واسع من المصريين؟
في الأسبوع الأول من مارس الماضي، تحدث ثعلب السياسة الأميركية العجوز هنري كيسنجر، خلال المؤتمر السنوي لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي في نيويورك، حول الثورة المصرية، موضحا أن هناك نوعين من الثورات؛ ثورات ديمقراطية، وثورات تاريخية. واعتبر أن ثورة مصر من النوعية الثانية التي لا تترك في أعقابها إلا الدمار، ولم يستفد منها على حد وصفه إلا العسكر والإسلاميون، فالشباب الذين دعوا للثورة باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لم تكن لديهم خطة واضحة لما بعد الثورة، وفي نهاية الأمر سيندلع صراع بين الجيش وجماعة الإخوان.. هكذا يقرر الرجل.
غير أن علامة الاستفهام الأهم؛ هل الجيش ينوي أو يسعى أو يخطط لذلك الصدام أم أن هناك من النوازل والمستجدات ما يمكن أن يدفعه دفعا لمثل هذا التصرف، انطلاقا من واجباته الدستورية وفي مقدمتها حماية حدود البلاد والحفاظ على الجبهة الداخلية؟
ربما أرادت المؤسسة العسكرية المصرية أن تضع حداً لمثل هذا الجدل الدائر مؤخراً، وذلك من خلال التصريحات التي أطلقها وزير الدفاع المصري الفريق أول عبد الفتاح السيسي، خلال تفتيش حرب في مقر الفرقة التاسعة المدرعة، والتي طالب فيها الجميع بأن يبتعدوا عن اللعب مع الجيش لأنه، على حد وصفه، مثل النار "لا يلعب بها أو معها". وبهذا التصريح الواضح أخرج رجل العسكرية المصرية، الذي بدأ يلقى شعبية واضحة في الشارع المصري، الجيش من دائرة الصراع السياسي بين الإخوان والمعارضة.. لكن هل يعني ذلك أن الجيش أضحى خارج المعادلة السياسية المصرية بإجمالي المشهد وبتبعاته واستحقاقاته؟
القراءة المعمقة والرصينة لتصريحات الفريق السيسي، تعني أن الجيش يطالب جميع فئات الشعب، وخاصة القوى السياسية المتصارعة، بالسعي نحو الحوار التوافقي في ما بينهم، لأن الخلاف المستمر سيؤدي إلى طريق مسدود، وسيقود إلى مزيد من تدهور الحالة الاقتصادية في البلاد.
غير أنه في لحظة حرجه سيكون لزاماً على الجيش أن يحمي المواطنين مهما تكلف من تضحيات، وعليه فنزوله سيكون لحماية الشعب إذا تعرض للقمع، ولمنع انهيار الدولة في حالة تدهور الحالة الاقتصادية، لأن الجيش جزء من الشعب المصري. هل يمكن أن تأتي لحظة بالفعل يجد الجيش أنه مجبر على العودة إلى الداخل حتى يبعث برسالة إلى المتربصين بمصر على الحدود؟ التجربة الأخيرة التي جرت صباح الخميس 3 مايو 2012 تؤكد ذلك. ففي ذلك اليوم وبينما ازدادت حشود الزاحفين جهة مقر وزارة الدفاع المصرية، فيما عرف بموقعة العباسية لاحقاً، كانت قيادة الجيش الإسرائيلي قد استدعت عدداً كبيراً من الاحتياط، وبدأت نشر قوات على الحدود مع مصر استعداداً للتطورات المقبلة.
كانت الخطة الإسرائيلية تقضي بأنه في حال اقتحام مبنى وزارة الدفاع وسيادة وانتشار الفوضى في ربوع مصر، يتم الدفع بقوات إسرائيلية لعبور الحدود في اتجاه سيناء، وإقامة شريط حدودي بعمق 10 كيلومترات داخل سيناء، لحماية الأمن الإسرائيلي وخوفاً من إطلاق صواريخ من عناصر تنتمي إلى القاعدة داخل سيناء، ويبدو أن واشنطن كانت قد أعطت الضوء الأخضر للحكومة الإسرائيلية لتنفيذ تلك المهمة.
اقتضى الامر وقتها أن ذهب المشير طنطاوي إلى سيناء تحت غطاء افتتاح مصنع أسمنت، ليرسل رسالة إلى إسرائيل بأن جيش مصر يعي ما يدور، وفي القاهرة كان جنود العمليات الخاصة (الفرقة 999) العسكرية تقضي في أقل من ساعة على الزاحفين في طريق المؤسسة، وبذلك بدا واضحاً أن الجيش المصري يعلم متى يملأ وكيف يملأ "فراغ القوة".
هل يعني ذلك أن الجيش لديه خطط بالفعل في هذا السياق؟
بدون أدنى شك، والتجربة تؤكد ذلك، فقد دهش وربما صدم الإسرائيليون والأميركيون على حد سواء، من سرعة وكفاءة انتشار قوات الجيش المصري نهار 28 يناير لتأمين المنشآت الحيوية للدولة، ما يعني أن الخطط كانت موجودة بالفعل، بل ومتدرباً عليها.
وتبقى الإشارة إلى أن آخر تقديرات معهد بروكنغز الشهير، تقول إن 82% من المصريين يوافقون على تولي الجيش المسؤولية مرة أخرى، وأن 84% يرون أن تأخر نزول الجيش سببه واشنطن، ما يطرح علامة استفهام حول موقف الولايات المتحدة من فكرة عودة العسكر لحكم مصر ولو مؤقتاً من جديد..