كان مشهداً غريباً ذلك الذي شاهدته في مسرحية حقيقية على مسرح الواقع، فبينما كنت أتجول في ردهات أحد المراكز التجارية إذ شاهدت رجلاً عربياً يجادل بائعاً آسيوياً في أحد المحلات التجارية، وكان الأخير يتحدث مع الرجل العربي باللغة العربية وصاحبنا العربي يردّ عليه باللغة الإنجليزية.

وبقيا على هذه الحال لمدة عشر دقائق تقريبا، ولا أدري ماذا يهدف هذا العربي من حديثه باللغة الإنجليزية، رغم أن الآسيوي كان يتحدث بلسان عربي صحيح، فبدلاً من أن يحفّز أخونا العربي المقيمين الأجانب لدينا على تعلّم العربية، ينفرهم منها بطريقة أو بأخرى، فقط لأغراض شخصية فارغة.. وهناك بطبيعة الحال الكثيرون غيره، يتبعون الأسلوب نفسه في التعامل مع غير العرب.

هذا المثال يوضح مدى الإهمال الذي تعيشه لغتنا العربية اليوم في المنطقة العربية من جانب أبنائها العرب، فضلا عن الاستهتار بجمالياتها اللغوية من جانب غير العرب، والتي نرقبها من خلال الصور المنفرة في مختلف جوانب حياتنا اليومية، حيث نراها في أسماء المحلات التجارية، وفي اللوحات الإرشادية، وفي الإعلانات التجارية..

وأقرب مثال على ذلك تمثّل لي عندما دخلت أحد المطاعم غير العربية في إحدى إمارات الدولة، وأخذت أتصفح قائمة الطعام، فقرأت بعض الترجمات العربية لأصناف المأكولات التي يقدمها المطعم، حيث ترجم المطعم المذكور عصير "المليك شيك" إلى مصطلح مضحك جداً وهو "الحليب اهتز".. وكلما تمعّنت أكثر في تلك القائمة فحدث ولا حرج عن مُضحكات الترجمة.

لقد أراد صاحب هذا المطعم تطبيق القرار الوزاري الداعي إلى تقديم قائمة الطعام باللغة العربية إلى جانب الإنجليزية، لكنه وقع في المحظور. والضحية في هذا المقام هي لغتنا العربية الجميلة، التي لُوِّثت بيئتها المعجمية وأُرهقت مكنوناتها الجمالية بأبشع التحريفات من جانب هؤلاء الغرباء.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أين الرقابة على هؤلاء؟ ألا توجد دوائر رسمية مسؤولة عن تنظيم هذه الأمور، أم أن المسألة متروكة لكل من هب ودب يترجم ما يترجم دون رقابة أو تدقيق؟ لا أدري أين تقع المشكلة، لكني أرجو من المؤسسات المعنية أن تعيد قراءة القرارات التي يصدرها مجلس الوزراء الموقر جيداً، ثم تقوم بتفعيلها بشكل صحيح وأقرب إلى الواقع.

لقد أطلقت في هذا الشأن مبادرات عديدة، بدءاً بحزمة المبادرات النوعية التي أطلقها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والتي تهدف إلى الحفاظ على اللغة العربية وتعزيز مكانتها في المجتمع، والتي شملت ميثاقا للغة العربية لتعزيز استخدامها في الحياة العامة، إلى جانب مبادرات تتعلق بإحياء اللغة العربية كلغة للعلم والمعرفة وإبراز المبدعين من الطلبة فيها، وشملت أيضا إطلاق كلية للترجمة ومعهد لتعليم العربية لغير الناطقين بها، إضافة إلى مبادرة إلكترونية لتعزيز المحتوى العربي على شبكة "الإنترنت"، مروراً بفعاليات المؤتمر الثاني للغة العربية الذي استضافته دبي مؤخراً برعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، تحت شعار "اللغة العربية في خطر..

الجميع شركاء في حمايتها"، بحضور أكثر من 1000 باحث وأكاديمي جاؤوا من 32 دولة لمناقشة قضايا تتعلق بلغة الضاد، التي أطلق عليها الباحثون المشاركون في كلمتهم الاستهلالية مصطلح "صاحبة الجلالة".

وقد أكد على ذلك صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد عندما قال: "لغتنا هي هويتنا وهي رمز عزتنا وحضارتنا، وثقافتنا العربية والإسلامية العريقة، علينا جميعاً أن نحترمها وننميها في أوساط أجيالنا الحاضرة والواعدة، كي تظل أميرة لغات العالم وتاجها، لأنها لغة القرآن الكريم الذي أنزل هدى للناس جميعاً"، وليس انتهاءً بتقرير "العربية لغة حياة" الخاص بتحديث تعليم اللغة العربية، والذي أعدته "لجنة تحديث تعليم اللغة العربية" بناء على توجيهات سموه، لدراسة واقع وآفاق تعليم اللغة العربية، وضمّ مجموعة من المبادرات الهادفة إلى تعزيز مكانة اللغة العربية في الدولة، وتحقيق "رؤية الإمارات 2021" التي تهدف إلى جعلها مركزاً للامتياز في اللغة العربية، باعتبارها أداة رئيسة لتعزيز الهوية الوطنية لدى الأجيال القادمة.

نعم، إن اللغة العربية هي وعاء الثقافة وهوية الأمة، فمنها ينطلق الفكر والعلم والإبداع، وبها يتخلّق المجد والتاريخ والحضارة.. حفظها الأولون فحفظتهم، وأهملها المتأخرون فأمْهلتهم إلى حين، فهلا فهمتم يا أمة العرب والإسلام؟