في الطريق إلى جنيف

ت + ت - الحجم الطبيعي

رغم أنه ليس من عادتي الاستشهاد بمقالاتي السابقة، إلا أنني رأيت من المفيد اليوم الاستشهاد بمقال سابق، للإشارة فقط إلى أن دعوتي للحل السياسي ورفضي للحل العسكري هو موقف قديم وثابت، وللإلحاح على ضرورة إزالة العوائق على الطريق إلى المؤتمر الدولي "جنيف 2"، باعتباره الطريق الوحيد لتحقيق الحل السياسي للأزمة السورية، إذ إن البديل الآخر أكثر خطرا وأشد رعبا على كل أطراف الأزمة ودول المنطقة.

تحت عنوان "في الأزمة السورية.. هل يصبح جنيف هو الحل؟" بتاريخ 21/9/2012، أكدت في مقالي بصحيفة "البيان" على نقطتين أساسيتين: الأولى، أنه لا حل عسكريا للأزمة داخليا ولا خارجيا، والسيناريو الليبي لا يمكن تكراره في سوريا. والثانية، أن "اتفاق جنيف" بين الدول الخمس الكبرى يبدو هو الحل السياسي الممكن بين جميع المبادرات المخلصة والقرارات المنحازة المطروحة".

كان ذلك المقال أشبه برسالة إلى السفير العربي المخضرم الأخضر الإبراهيمي، في بداية تفويضه مبعوثا أمميا، لعلها تساهم في الإشارة إلى طريق الحل، فيما كان يطوف العواصم شرقا وغربا ويلتقي بالأطراف الدولية والإقليمية والسورية بحثا عن حل، بعدما أعلن المبعوث الأممي السابق كوفي عنان عن فشل مهمته، بسبب تصلب المواقف والانقسامات على جميع المستويات، والإصرار على استمرار الاقتتال!

وقلت في بدايته: "فيما لا تزال سوريا هي موضوع الحوار والسجال الرئيسي في كل المؤتمرات العربية والإقليمية والدولية، بل وفي كل اللقاءات الرئاسية والوزارية الثنائية، بحثا عن حل تتوافق عليه المصالح الدولية المتباينة، والمصالح الإقليمية المتقاطعة، والمصالح العربية المتشابكة، أظن أنه عندما يمكن للمصالح الخارجية الكبرى أن تتوافق، حينئذ فقط يمكن أن تتفق الأطراف الإقليمية والسورية.. وفي النهاية، هل تكون جنيف هي الحل؟".

واليوم بات الحل السياسي بالمفاوضات بين النظام والمعارضة، هو الخيار الروسي الأميركي المشترك بعقد مؤتمر جنيف 2 للخروج من الأزمة المشتعلة، بعدما اتضح لجل الأطراف السورية والعربية والإقليمية والدولية، فشل الحل العسكري في تحقيق الانتصار الحاسم لأي من الإخوة المتقاتلين! وبات نداء السلام الأهلي لحقن الدماء السورية، هو الأعلى من أصوات الصواريخ والمدافع والتفجيرات الإرهابية.

ومن صرخات الأمهات والأطفال، ومعاناة اللجوء والنزوح اللاإنسانية، بعدما سقطت الرهانات الدموية والمناورات السياسية! وفي نهاية المطاف بات الطريق إلى "جنيف 2" هو المسار الوحيد الأكثر عقلانية وواقعية وإنسانية، فيما تبدو البدائل الأخرى بتعقيداتها وتداعياتها وآثارها الوطنية والإقليمية والدولية، أكثر خسارة وأعلى كلفة وأشد رعبا على كل المتورطين في الأزمة المشتعلة والدامية.

ربما اتفقت المبادرات وحذرت القرارات الدولية مما لا ينبغي الوقوع فيه من تفكيك وحدة سوريا، ومن محاذير التدخل العسكري الدولي، ومن خطر امتداد النزاع إلى دول الجوار متعددة الأعراق والطوائف والمذاهب، لكن المشكلة أنها لم تتفق على ما ينبغي التوصل إليه بوسائل سياسية، وبخطوات عملية وواقعية، وبعدالة وعقلانية.

وبينما رأى الغرب، أن إشعال القتال في سوريا بين الجماعات الدينية المقاتلة وجيش النظام العلماني، يحمي أمن إسرائيل بإضعاف سوريا، ويحمي أمن الغرب بسحب المتطرفين والإرهابيين إلى "الجهاد" في الشرق، فلقد اكتشفوا أن اشتداد الصراع ينذر بتداعيات خطيرة تهدد أمن إسرائيل وحلفاء أميركا، وأن استمرار الصراع المسلح يوفر بيئة حاضنة لنمو الإرهاب، بما يهدد أمن الغرب بعد عودة المقاتلين "الإسلاميين" الأوروبيين إلى دولهم، وهو الاحتمال الأسوأ..

وهذا ما دفعهم للمراجعة والتراجع بحثا عن حل سياسي، مع محاولة أن يحققوا بالسياسة ما فشلوا في تحقيقه بالحرب الأهلية، وبالغارات الإسرائيلية على العاصمة السورية، خصوصا مع تزايد خطر الضربة السورية المضادة بما يفتح الباب لإشعال حرب إقليمية وربما عالمية..!

من هنا تحقق في موسكو الاتفاق الروسي الأميركي على الإقرار بفشل الحل العسكري، وعلى ضرورة عقد المؤتمر الدولي للحل السياسي في سوريا بين النظام والمعارضة، على أساس اتفاق "جنيف 1" الذي يوفر حلا متكاملا، والأهم أن الدول الخمس الكبرى وقعت عليه.

وبينما حاولت أميركا المناورة من جديد لتحقيق مكاسب قبل المؤتمر، بالتلويح مجددا بالتدخل العسكري بحجة استعمال النظام السوري للسلاح الكيماوي، وعاد الغرب الأوروبي للإعلان عن تسليح المعارضة بحجة تقوية المعارضين المعتدلين على المتطرفين..

إلا أن تلك المزاعم والحجج قد تراجعت، أولاً مع إعلان تركيا القبض على 12 معارضا على صلة بجبهة النصرة، التي تقاتل نظام الأسد والمصنفة أميركيا وأمميا بالإرهاب، معهم مواد كيماوية يخططون لتنفيذ هجمات بها داخل الأراضي التركية..

وثانيا، مع الإعلان الأميركي على لسان وزير الدفاع، بعدم وجود دليل قاطع على أن النظام السوري استخدم السلاح الكيماوي.. في حين فوجئت إسرائيل وأميركا بالرد الروسي القوي، بالإعلان عن تزويد سوريا بصواريخ إس 300 للرد على أي هجمات إسرائيلية أو تدخلات عسكرية أميركية.

وبتوبيخ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لنتانياهو قائلا: "لا تريدون لسوريا أسلحة دفاعية؟.. حسنا، كفوا عن الغارات الهجومية". وهكذا تتلاحق الأحداث والتطورات، لتعيد المسار إلى جنيف من جديد، كطريق وحيد ممكن للحل السياسي لا العسكري..

وبما يتيح خروج جميع الأطراف دون خسائر إضافية، خصوصاً مع تردد الرئيس الأميركي في تكرار المغامرة الفاشلة في العراق بناء على معلومات خاطئة، ومع ما ثار في أميركا من صخب بعد مقتل السفير الأمريكي في ليبيا بسلاح أميركي، على أيدي من تتهمهم أميركا بالإرهاب والارتباط بالقاعدة، وحرص الرئيس أوباما على الاستفادة من الدرس الليبي وعدم تلقي درس سوري مماثل!

ورغم ما يبدو من غيوم وعراقيل على طريق "جنيف"، مثل انقسامات الائتلاف المعارض، واشتداد الاقتتال في "القصير"، وزيادة الاصطفافات مع الجانبين طائفيا ومذهبيا،.

وتقدم جيش النظام على الأرض، ولأن لكل معركة نهاية بالتفاوض السياسي، تصمم روسيا والصين رغم المناورات الأميركية والأوروبية، على إطلاق العملية السياسية عبر التفاوض بين النظام السوري والمعارضة، تحت مظلة مؤتمر "جنيف 2" الذي يبدو "الفرصة الأخيرة" لحل هذه الأزمة المأساوية، بما يستجيب لتطلعات الشعب السوري في التغيير والوحدة والسلام.

 

Email