مصر بين سكتين

بينما هناك ثقافة بارعة في حل المشكلات، هناك أيضاً ثقافة بارعة في صنع الأزمات.. الخطورة في مصر اليوم أن البارعين في حل المشكلات، ليسوا من الممسكين بالسلطة أو من المشاركين في صنع القرار، بل هم المتحركون مع الناس في الشوارع والمتجمعون رفعاً لمطالبهم في الميادين، في حين أن من يجلسون على كراسي السلطة، والذين يصنعون القرارات الخاطئة ويشرعون القوانين الباطلة، بالمغالبة لا بالمشاركة، ولأغراض تمكين الجماعة الحاكمة وليس لأهداف غالبية الشعب.

والفاشلون في حل مشكلات الجماهير، هم البارعون فقط في صنع الأزمات، ولهذا تفرغوا لتصفية الحسابات وإثارة الثارات والانقلاب على ما أقسموا عليه وما وعدوا به، فمارسوا العدوان على القضاء، واشتبكوا بالكلمات مع القوات المسلحة، وهددوا السياسيين والإعلاميين، وأرهبوا المثقفين، ولبدوا الأجواء بالتوترات، وعملوا لتمكين أنصارهم وإقصاء معارضيهم، ففشلوا في إدارة الفترة الانتقالية، وحولوها إلى فترة انتقامية أفقدتهم الثقة السياسية وأثارت الغضب الشعبي عليهم.

هذه الأزمات التي سببت المعاناة الشعبية، وهذا الغضب السياسي والإعلامي والثقافي من تلك الممارسات الرئاسية والتشريعية، المفتقرة للخبرة والفاقدة للشرعية الدستورية، طبقاً للأحكام الصادرة من أعلى الهيئات القضائية التي أفقدتهم الأهلية عملياً لحمل أمانة المسؤولية الوطنية، حركت القوى السياسية، ودفعت الحركات الشعبية، وخاصة الشبابية، لإعلان رفضها لاستمرار الرئاسة الحالية في مصر.

وعبر الغضب الشعبي عن نفسه في تيار رئيسي باسم «حركة تمرد»، التي أعلنت استهدافها جمع 15 مليون توقيع حتى نهاية الشهر الحالي، ونجاحها حتى كتابة هذه السطور في جمع توقيعات تفوق أصوات الـ12 ونصف مليون ناخب، التي حملت الدكتور محمد مرسي إلى مقعد الرئاسة، إذ بلغت 13 مليون توقيع من المواطنين المصريين، على استمارة تؤكد سحب الثقة من الرئاسة الحالية، والمطالبة باستقالة الرئيس وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة..

غير أن روح المكابرة والعناد لدى جماعة وحزب الإخوان والأحزاب الإسلامية الصغيرة الموالية لها، عبرت عن نفسها في إطلاق عبارات الاستخفاف والشائعات والتهديدات، لجبهة الإنقاذ الوطني المعارضة ولـ«حركة تمرد» الصاعدة، التي حددت يوم 30 يونيو الموافق للذكرى السنوية الأولى لرئاسة الدكتور مرسي، موعداً للاحتشاد الملاييني السلمي للتعبير عن رفضهم للنظام الحاكم، في الميادين والشوارع في القاهرة والإسكندرية والمنصورة والمحافظات المصرية المختلفة.

وتأكيد مطالبهم بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، في ما يعيد إلى الأذهان أجواء ثورة يناير الشعبية، التي أسقطت حكم الرئيس السابق حسني مبارك.

وقد لوحت جماعات الموالاة بمنع المتظاهرين المعارضين لمرسي بالقوة «بكل الطرق وطبقاً للظروف الميدانية»، بل وباستخدام العنف المسلح ضد المعارضين، وإعلان ما سموه بـ«الثورة الإسلامية» للسيطرة على الحكم مجدداً، إذا تمكنت القوى الشعبية الوطنية من إسقاط حكم الدكتور مرسي، على الرغم من ديمقراطية وسلمية ودستورية الحق في التعبير السلمي عن الرأي، وعن المطالب بسحب الثقة من الرئيس ومطالبته بالاحتكام إلى الشعب مصدر السلطات عبر الصناديق.

ولهذا تواجه مصر اليوم أزمة خطيرة لا تخفى على أحد، بتأثير تصاعد الغليان والتوتر في الشارع المصري، بسبب الأزمات المتلاحقة والخانقة الناتجة عن فشل إدارة البلاد الإخوانية، التي باتت تصيب المواطن العادي على مستوى القاعدة بأكثر مما تصيب القوى السياسة المشتبكة معها على مستوى القمة، وتتزلق بفعل عناد السلطة الإخوانية الحاكمة والموالين لها من «حملة تجرد».

وتصلب مواقف جبهة الإنقاذ الوطني وحركة تمرد المعارضة لها، وبحاجة من حكامها وشعبها إلى كل العقل والحكمة، ولكل الوطنية والمسؤولية، حتى لا يقع الصدام بين الفريقين وتراق الدماء المصرية مما ينذر بما هو أخطر.

ولأن «صديقك من صدَقك لا من صدّقك» ودعاك إلى سلوك طريق السلامة، ومن حذرك لا من حرضك على المضي على طريق الندامة.. فلا أرى مخرجاً مناسباً من أزمة الانقسام السياسي الحاد في مصر، ينزع فتيل الاشتعال الذي ينذر بمواجهة دامية قد تتحول لزلزال أو طوفان، ولتطويق آثار ما يمكن أن تؤدي إليه أحداث يوم 30 يونيو من احتمالات المخاطر الأمنية، سوى أحد طريقين سياسيين دستوريين يحتكمان إلى الشعب بالوسائل الديمقراطية..

الأول، هو مبادرة من الرئيس مرسي بإجراء استفتاء فوري على استمرار رئاسته لنهاية المدة، بما يجنب مصر مزيداً من الانقسام والمخاطر ويحفظ ماء الوجه للجميع.. والثاني، هو الاستجابة للمطلب الشعبي بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، انطلاقاً من ثقته في شعبيته، ومن أن إرادة الشعب هي الحاكمة والفاصلة في الأزمات.

في النهاية، إذ ندعو الله أن يحفظ مصر وشعبها من شرور الفتن الأهلية اللعينة، فإن النزول على إرادة الشعب والتأسيس «لدولة الحق والقانون والعدل وتكافؤ الفرص والحقوق والواجبات والحريات والمسؤوليات»، هو الحل الآمن لكل الأزمات النابعة من أزمة شرعية رئاسية أو برلمانية أو أزمة ثقة شعبية.. خصوصاً وأن هناك بعض الساسة تنقصهم الحكمة، وبعض الزعماء تنقصهم السياسة.

لذلك فإن الخروج الآمن من تلك الأزمة الخطيرة، لا يتحقق إلا باحترام الإرادة الشعبية عبر العودة لصناديق الانتخابات لحل الأزمات، وبالالتزام بالقواعد الدستورية والقانونية وبالأحكام القضائية، وباحترام الاختلاف وصولاً إلى الائتلاف، بعيداً عن سكة الندامة وقريباً من سكة السلامة!