هل نجحت إسرائيل في معركتها التاريخية، معركة الوجود لا الحدود، مع مصر؟ ربما تكون أزمة بناء سد النهضة الذي تسعى إثيوبيا إليه، معركة من المعارك الحاسمة في هذا السياق. إننا نؤمن إيمانا عميقا بأن معاهدات السلام مع إسرائيل ليست إلا هدنة حتى وإن طال الزمن، انطلاقا من أن توجهات إسرائيل هي دينية، والرؤى التوراتية هي التي تشكل عملية صناعة القرار فيها، أمس واليوم والى الأبد.

 ما علاقة هذه المقدمة بسد النهضة؟ الجواب يعود بنا إلى الفكر الديني الذي يحكم إسرائيل، والمرفوع فوق منصة الكنيست حتى الساعة "حدودك يا إسرائيل من الفرات إلى النيل".. هل لهذا كان الوجود الإسرائيلي في إثيوبيا منذ زمان بعيد؟

واقع الحال أن العلاقات الإسرائيلية الإثيوبية في حاجة إلى دراسات مطولة، منها ما هو تاريخي ديني، ومنها أيضا ما هو اقتصادي ومتعلق بالمياه.. فمن أين للمرء أن يبدأ؟

ذهب تيودور هيرتزل (1860-1904)، مؤسس الحركة الصهيونية الحديثة وصاحب كتاب ومشروع الدولة اليهودية ومؤسس دولة إسرائيل الحقيقي، في كتابه "الأرض الجديدة.. الأرض القديمة" منذ أكثر من مائة عام، إلى القول: "إن المؤسسين الحقيقيين للأرض الجديدة ـ القديمة هم مهندسو المياه. فعليهم يعتمد كل شيء من تجفيف المستنقعات إلى ري المساحات المجدبة، وإلى إنشاء معامل توليد الطاقة الكهربائية من الماء".

والشاهد أن وقائع التاريخ السياسي تؤكد أن كافة رواد الحركة الصهيونية قد وضعوا النيل بشكل خاص نصب أعينهم، وباتت مسألة التحكم في مصادر المياه في الشرق الأوسط عامة وفي مياه النهر الخالد خاصة، هدفا استراتيجيا أوليا. ولهذا كانت حركتهم واسعة وتحالفاتهم وثيقة في حوض النيل، لا سيما في الفترة التي غاب فيها التواجد المصري، وخبأت كاريزما مصر عبد الناصر المساند لثوار القارة السمراء.

ما الذي سعت إليه إسرائيل عبر الأعوام الخمسين الماضية، وخاصة في علاقتها مع إثيوبيا على نحو واضح ومثير؟

كانت ولا تزال تمضي في طريق إدراك هدفين مصيريين بالنسبة إليها:

الأول؛ هو الحصول على حصة من مياه النيل، بسبب الشح المائي الذي تعيشه والذي يهددها مستقبلا، وهو الأمر الذي طرحه مناحيم بيغن من قبل على السادات ولم يجد إلا آذانا مصرية صماء، سيما وأن كمية مصر من المياه لم تعد تكفيها مع ازدياد عدد سكانها.

الثاني؛ يتمثل في ما هو معروف استخباراتيا بـ"شد الأطراف"، أو التأثير على التخوم من أجل إضعاف المركز، فالعلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع إثيوبيا وغيرها من دول حوض النيل، تساهم في تطويق السياسة المصرية وحصرها في محيطها الإقليمي، بما يعمل على تشتيت تركيز السياسات المصرية الاستراتيجية حال مجابهتها بخطر وجودي يتمثل في مياه النيل، شريان الحياة الوحيد لبلد تبلغ مساحة الصحراء فيه نحو 97.5% من إجمالي مساحته.. هل هناك أبعاد أخرى تجعل علاقة إسرائيل بإثيوبيا على هذا القدر من القوة والمنعة والمتانة، ما يعني أن تل أبيب تضمن لإثيوبيا دعما أميركيا مطلقا وبقوة إلى أبعد حد ومدى؟

هناك في واقع الحال بعد تاريخي ديني يغيب عن أعين الكثيرين، إذ إنه من المعروف سعي إسرائيل الحثيث لإعادة بناء هيكل سليمان في موقع المسجد الأقصى، غير أن الهيكل لا يبنى إلا إذا وجد تابوت العهد.. فما هو تابوت العهد؟

توراتيا يعد التابوت رمزا لأمان وحماية الشعب اليهودي، وعلامة حضور الله في وسط شعبه، وهناك كتابات دينية إسرائيلية تشير إلى أن هذا التابوت قد تم إخفاؤه في الأراضي الإثيوبية، وأنه لن يظهر للعلن إلا بعد تجمع اليهود في إسرائيل من جديد استعدادا لبناء الهيكل.

في هذا الإطار هناك مرويات عن أن الإمبراطور الإثيوبي السابق هيلا سيلاسي، والذي قيل إنه استطاع أن يثبت أن نسبه يرجع إلى الملك سليمان وكان معروفا عند شعبه كـ"أسد يهوذا الغالب"، قد صرح بإعلان خطير قبل موته مباشرة، أعلن فيه أن تابوت العهد موجود بحوزته في كنيسة ما، بالقرب من المدينة القديمة المسماة "إكسوم" في إثيوبيا.. هل لهذه المدينة وجود فعلي؟

بالرجوع إلى دائرة المعارف البريطانية تحت كلمة "إكسوم"، نقرأ أن هذه المدينة القديمة تحتوي على الكنيسة الأثرية، والتي بحسب التقليد يوجد فيها تابوت العهد الذي أحضر من إسرائيل من مدينة أورشليم، بواسطة ابن الملك سليمان وملكة سبأ، ومن المفترض أنه ما زال مستقرا هناك.

ما تقدم غيض من فيض، ويعكس أن إسرائيل مستعدة لتقديم ما تطلبه إثيوبيا لتحقيق أهداف ثلاثة: محاصصة في مياه النيل، وشد أطراف مصر، وتحقيق الحلم التوراتي القديم ببناء الهيكل.. هل نامت نواطير مصر عن ثعالب إسرائيل في إثيوبيا ودول حوض النيل؟ الخطر وجودي هذه المرة، غير أن المصريين، ومن أسف وبمرارة تفتت الصخر، يرى الناظر أنهم مشغولون بالصراعات الداخلية، تماما كما حال ملوك الطوائف في الأندلس، في حين يتوضأ الأعداء لهم بالدم في انتظار معركة حياة أو موت.