قبل عدة سنوات كنت برفقة مجموعة من الأصدقاء في رحلة صيد بحرية، وهي من عاداتنا المحببة كوننا قاطنين إلى جانب البحر، وفي تلك الرحلة التقانا شاب كان يكبرنا سناً وقد أكمل دراسته الجامعية خارج الدولة، وأخذ يتحدث معنا حول المحافظة على البيئة وعدم رمي المخلفات في مياه البحر، مشددا على أن الإمارات اليوم تنتهج مبدأ الاستدامة في المسار البيئي.
حينها لم أكن في الحقيقة مدركاً معنى الاستدامة، وأنني أسمع هذا المصطلح لأول مرة، والذي ظل يتردد صداه في ذهني من حين إلى آخر، إلى أن بدأت رحلة البحث والتقصي عن الاستدامة وماهيتها. في ذلك الوقت كان المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، يعمل على إيجاد بيئة إماراتية مستدامة، من خلال الكثير من المبادرات البيئية المتعددة التي أطلقها ورعاها على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، فاستحق حينها لقب "رجل البيئة" بامتياز.
اليوم وفي ظل التطورات العالمية والمستجدات الحديثة التي طرأت على المجتمعات والشعوب على اختلاف مكوناتها، يكثر الحديث عن الاستدامة، والفرد العادي يسمع كثيراً عن هذا المصطلح في حين أنه لا يعرف عن كنهه وماهيته شيئاً، لذلك سنبدأ بالتعريف به ثم الحديث عن التفاصيل الأخرى.
فالاستدامة كمصطلح، وهو بيئي في الأساس، حيث يصف كيف تبقى النظم الحيوية متنوعة ومنتجة مع مرور الوقت. والاستدامة بالنسبة للبشر هي القدرة على حفظ نوعية الحياة التي نعيشها على المدى الطويل، وهذا بدوره يعتمد على حفظ العالم الطبيعي، والاستخدام الواعي والمسؤول للموارد الطبيعية.
وكما جاء في "موسوعة ويكيبيديا"، فإن مصطلح الاستدامة استخدم منذ ثمانينيات القرن العشـرين، وأول ما استخدم بمعنى الاستدامة البشرية على كوكب الأرض، وهذا مهّد إلى التعريف الأكثر شيوعا للاستدامة والتنمية المستدامة، حيث عرفته مفوضية الأمم المتحدة للبيئة والتنمية في 20 مارس 1987 بقولها: "التنمية المستدامة هي التنمية التي تفي باحتياجات الوقت الحاضر، من دون المساس بقدرة الأجيال المقبلة على تلبية احتياجاتها الخاصة".
وبطبيعة الحال فإن مفهوم الاستدامة يقوم على ثلاث ركائز رئيسية، هي: الاقتصاد، المجتمع، البيئة. ولتحقيق الاستدامة في أي مجتمع، لا بد من التوفيق بين هذه الركائز مجتمعة.
أما لدينا في دولة الإمارات فقد قطعنا في هذا المجال شوطا كبيرا، فبدءاً من مرحلة "التأسيس" إلى مرحلة "التمكين"، كانت للدولة مبادرات خلاقة وإنجازات كبيرة جعلت منها وطناً راعياً وداعماً للاستدامة. وقد دأبت دولة الإمارات منذ نشأتها، على المضي قُدما في تحقيق التنمية الشاملة بمحوريها الرئيسيين، وهما التنمية البشرية والتنمية المستدامة.
إن مرحلة "التمكين" التي أطلقها صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، في العام 2005 والتي جسّدت رؤية سموه لحاضر الدولة ومستقبلها، جاءت لترسّخ مرحلة جديدة من مراحل التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة، وتضمن حياة كريمة للمواطنين. فقد اتضحت معالم هذه الرؤية من خلال تمكين المواطن عموما والمرأة خصوصا، فضلا عن التمكين السياسي الذي قضى بتوسيع مشاركة أبناء الشعب الفاعلة والواسعة، وترسيخ مفهوم المشاركة والشراكة الوطنية والمجتمعية، خاصة الشراكة بين القيادة والشعب.
بالإضافة إلى مجالات التمكين الأخرى التي شملت جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تمحورت حول الإنسان الذي هو الغاية والهدف، فاستدامة التنمية كما هو معروف، رهن ببناء الإنسان الذي هو أداتها الأولى وغايتها النهائية.
ومن منجزات الدولة في هذا الخصوص، نذكر على سبيل المثال لا الحصر؛ استضافة المقر الرئيسي للوكالة الدولية للطاقة المتجدّدة "إيرينا"، لتصبح دولة الإمارات أول دولة غير أوروبية تستضيف مقراً رئيسياً لإحدى وكالات منظمة الأمم المتحدة. وأيضا بناء "مدينة مصدر" التي تعد أكثر مدن العالم استدامة.
وهي تجربة فريدة من نوعها عالمياً، ضمن مساعي إمارة أبوظبي لترسيخ مكانتها كمركز عالمي رائد للتميز في مجال الطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة، فضلا عن "محطة شمس 1" وهي أكبر مشاريع الطاقة الشمسية المركزة العاملة على مستوى العالم، و"مجمع محمد بن راشد آل مكتوم للطاقة الشمسية"، ومبادرة "اقتصاد أخضر لتنمية مستدامة" ضمن "رؤية الإمارات2021".
ومن المبادرات النوعية كذلك في هذا المجال، "مجموعة أبوظبي للاستدامة" التي تأسست في العام 2008 من قبل هيئة البيئة في أبوظبي وبدعم من المجلس التنفيذي للإمارة، حيث تعتبر "المجموعة" إحدى أهم المبادرات التي تسعى إلى تحقيق رؤية الاستدامة لإمارة أبوظبي، من خلال ترسيخ مفهوم الاستدامة بين مختلف مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص ومؤسسات النفع العام،.
وذلك ببناء القدرات وتبادل الخبرات وإطلاق المبادرات، واقتراح السياسات في مجال التنمية المستدامة والتي تتبناها المؤسسات الأعضاء، وهو الأمر الذي من شأنه أن يعزز مفاهيم وممارسات الاستدامة في الإمارة. وقد بلغ عدد الأعضاء المنضوين تحت لواء المجموعة 42 عضوا، من مختلف مؤسسات القطاعين الحكومي والخاص ومؤسسات النفع العام.
إن دور هذه المجموعة وبكل ما تقوم به من عمل دؤوب ومنجزات متميزة في مجال الاستدامة، يدعونا للتأكيد على تعميم هذه المبادرة لتشمل كافة إمارات الدولة تحت مسمى "مؤسسة الإمارات للاستدامة"، وهو الأمر الذي سيؤدي إلى زيادة الوعي ورفع مستوى الفهم لمبادئ الاستدامة لدى أجيال الحاضر والمستقبل. كما أنه سيسهم حتماً في تحقيق الهدف المنشود، للوصول بدولة الإمارات إلى التنمية الشاملة والمستدامة التي ترنو إليها.