أوردت إحدى الصحف المحلية في أول يوم من شهر رمضان المبارك خبراً يقول: "تزاحم المستهلكين على شراء السلع الغذائية يرفع مبيعاتها إلى 70% عشية رمضان"، وهو خبر بطبيعته يبعث على الحيرة من هذا السلوك القديم المتجدد الذي تواظب عليه في الأغلب الأعم شريحة من الناس في مختلف المناسبات خصوصاً في "رمضان"، وكأن هذا الشهر الفضيل فُرض للأكل وإقامة الموائد الرمضانية بما لذ وطاب من طعام وشراب، والتي مردّها في النهاية إلى صناديق النفايات.

ومن ذلك نستوضح أن الناس باقون على عهدهم القديم، في الإسراف والتبذير، وهو ما يؤكد أنهم لم ولن يستجيبوا لرسائل التوعية والتثقيف التي تبثها مختلف وسائل الإعلام في هذا الخصوص، إلا من رحم الله طبعاً، فضلاً عما تقوم به وزارة الاقتصاد والدوائر المحلية المعنية من مبادرات خلاقة ترمي إلى حماية المستهلك من خلال توعيته، وبالتالي تتبلور ثقافة استهلاكية سليمة في المجتمع. هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإنها تقوم بمراقبة الأسواق منعاً للاحتكار وارتفاع الأسعار.

وفي هذا الإطار، فقد تلقّيت عبر خدمة "واتساب" قصة شباب عرب قدموا إلى ألمانيا بغرض الدراسة. حيث يقول الشاب الذي جاءت على لسانه القصة ـ مع قليل من التصرف ـ: "وصلت إلى هامبورغ، ورتّب زملائي من الموجودين في هامبورغ جلسة ترحيب لي في أحد المطاعم.

وعندما دخلنا المطعم، لاحظنا أن كثيراً من الطاولات كانت فارغة. وكانت هناك طاولة صغيرة يجلس عليها زوجان شابان لم يكن أمامهما سوى طبقين من الطعام وعلبتين من المشروبات".

ويتابع الشاب: "كنت أتساءل إذا كانت هذه الوجبة البسيطة يمكن أن تكون رومانسية، وماذا ستقول الفتاة عن بخل هذا الرجل. وكان هناك عدد قليل من السيدات الكبيرات في السن".

ويضيف الراوي: "كنا جياعاً، لذلك طلب زميلنا مزيداً من الطعام، وبما أن المطعم كان هادئاً، فقد وصل الطعام سريعاً، فلم نقض وقتاً طويلاً في تناوله، وعندما غادرنا المكان كان حوالي ثلث الطعام متبقياً في الأطباق، لم نكد نصل باب المطعم إلا وبصوت ينادينا، لاحظنا السيدات كبيرات السن يتحدثن عنا إلى صاحب المطعم، وعندما تحدثوا إلينا، فهمنا أنهن يشعرن بالاستياء لإضاعة الكثير من الطعام، قال زميلي "لقد دفعنا ثمن الغذاء الذي طلبناه فلماذا تتدخلن فيما لا يعنيكن؟"،

فنظرت إلينا إحدى السيدات بغضب شديد، ثم توجهت نحو الهاتف، وبعد وقت قصير، وصل رجل بزي رسمي قدّم نفسه على أنه ضابط من مؤسسة التأمينات الاجتماعية وحرّر لنا مخالفة بقيمة 50 يورو، التزمنا جميعاً الصمت، وأخرج زميلي المبلغ وقدمه للرجل مع الاعتذار.

فقال الضابط بلهجة حازمة "اطلبوا كمية الطعام التي يمكنكم استهلاكها، فالمال لك ولكن الموارد ملك للمجتمع".

انتهى. لقد استوقفني في هذه الحكاية قول الضابط: "المال لك ولكن الموارد ملك للمجتمع"، فهي بالفعل مقولة معبّرة وتستأهل أن تكون عنواناً ودرساً يزيح عنّا غشاوة الواقع الذي نعيشه اليوم في بلداننا العربية خصوصاً الخليجية.

 إذ إننا نقوم بعملية استنزاف خطير وغير مسؤول للموارد الغذائية في مجتمعاتنا. وهو أمر يتعارض أيضاً مع مبادئ التنمية المستدامة التي ترنو دول الخليج العربية للوصول إليها، وكما هو معلوم فإن التنمية المستدامة تتطلب تحسين ظروف المعيشة لجميع الناس من دون زيادة استخدام الموارد الطبيعية إلى ما يتجاوز قدرة كوكب الأرض على التحمّل.

ويقول خبراء في هذا الشأن: إن من أهم التحديات التي تواجهها التنمية المستدامة القضاء على الفقر، من خلال التشجيع على اتباع أنماط إنتاج واستهلاك متوازنة، من دون الإفراط في الاعتماد على الموارد الطبيعية.

فأين نحن من ذلك؟ خاصة وأن عالمنا العربي يعج بحالات ومستويات مفزعة من الفقر والعوز ونقص الغذاء بين شعوبه ومجتمعاته. وهو ما أكد عليه التقرير الذي أعدته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا "الأسكوا"، والذي أفاد: بأن العالم العربي يواجه قضايا صعبة كالبطالة والكساد واتساع مساحة الفقر والأمية الثقافية والتخلف التكنولوجي والأمن الغذائي والمائي.

 نعود لنؤكد أن التنمية المستدامة ـ كما تحدثنا في مقال سابق ـ تجري في ثلاثة مجالات رئيسية هي النمو الاقتصادي، وحفظ الموارد الطبيعية والبيئية، والتنمية الاجتماعية. وفي مجال الأمن الغذائي، فإن الاستدامة الاقتصادية تهدف إلى رفع الإنتاجية الزراعية والإنتاج من أجل تحقيق الأمن الغذائي المحلي أولاً ومن ثم التصدير العالمي ثانياً.

في حين أن الاستدامة الاجتماعية تهدف إلى تحسين الإنتاجية وأرباح الزراعة الصغيرة ضمن الأمن الغذائي المنزلي. في المقابل تهدف الاستدامة البيئية إلى الحفاظ على الأراضي والغابات والمياه والحياة البرية والأسماك وموارد المياه.

وتأسيساً على ما تقدم، فإننا نقترح على الجهات الاتحادية والمحلية ذات الاختصاص، سن قانون أو تشريع يغرّم كل من تسوّل له نفسه الإضرار بموارد المجتمع الغذائية من خلال ما يقوم به من تصرفات غير مسؤولة كالهدر أو التبذير أو الإسراف في استهلاك السلع الغذائية. فلعلّنا بهذا القانون نستطيع أن ننظم عملية الاستهلاك الفردي للغذاء، وتنتشر وتعمّ بالتالي ثقافة استهلاكية سليمة ومستدامة.