المشهد المصري بين التأرجح والتوازن

مصر بعد ثورة 30 يونيو الشعبية التي أسقطت سلطة الجماعة وأعلت إرادة الشعب، تشهد مرحلة مفصلية مهمة في تاريخها الحديث.. ذات أربع سمات ثورية، ووطنية، وديمقراطية، وشرعية، وتتطلب أربع صفات لكل قول وقرار أو فعل وحركة، من كل من يتقدم لخدمتها في أي موقع من مواقع المسؤولية، عبوراً بها مما هي فيه إلى ما تتطلع إليه. مصر الأم تتطلب من كل أبنائها الحكماء والعلماء والعقلاء والأسوياء، كل ما هو جاد ومسؤول وأمين وصادق.

هذه الثورة بدعم جيشها الأمين على إرادتها بكل شعبيتها، الواضحة لكل ذي عينين، قد أكدت شرعيتها الثورية، ووطنيتها وسلميتها ونبل أهدافها، بديلاً عن شرعية انتخابية فقدت شرعيتها بغياب أمانتها ومسؤوليتها وسوء أدائها وانحراف مسارها، وعن عملية دستورية فقدت مشروعيتها بأحكام قضائية، وعن حكم لحزب تحكم في شعب.

وعن سلطة لجماعة تسلطت على الوطن، وعلى رئيس فقد شعبيته ففقد شرعيته. والمشهد المصري العام بخطوطه المتشابكة ودوائره المتقاطعة، وبتناقضات المبادئ والمصالح لدى بعض مكوناته الداخلية وامتداداتها الخارجية، صنع العديد من المشاهد المتباينة الزاهية والدامية.

ومن المشاعر المختلفة الفرحة والمتفائلة، والقلقة والمتشائمة، بحسب اختلاف مواقف القوى الوطنية المشاركة في الثورة، والقوى السياسية المناهضة للثورة، مما صنع أزمة وليس انقساماً بين جماعة وشعب، ومواجهة سياسية وليست دينية، في صراع على السلطة بين الشرعية الشعبية الثورية، واللاشرعية الإخوانية غير الدستورية.

ورداً على ما قد يقال هنا من أن الرئيس السابق مرسي جلس على الكرسي بشعبية انتخابية وأنجز دستوراً بموافقة شعبية، فإن الديمقراطية في تصور بسيط تعني "سلطة الشعب" التي يمكنه أن يباشرها بنفسه مباشرة أو نيابية بتوكيل منه وفق عقد في شكل دستور، كما يمكنه أيضاً أن يسحب توكيله ممن أنابه، باعتبار الشعب هو صاحب الوطن وصاحب القرار فيه، ومصدر السلطة والشرعية. وأياً كانت صورة المشهد الذي تبدو عليه مصر اليوم، فإن إطاره العام تشكله أضلاع أربعة؛ دولي وإقليمي وعربي ووطني.

على المستوى الدولي أمامي في صحف الثلاثاء، ثلاثة بيانات تحدد المواقف الدولية الأميركية والروسية والأوروبية والأممية، وهنا وبينما يبدو الموقف الأوروبي متقدماً عن الموقف الأميركي، فإن الموقف الروسي يبدو أفضل من الموقفين الأوروبي والأميركي معاً.

فقد أصدرت الرئاسة الأميركية رسالتين متناقضتين في يومين متتاليين، الأولى من الرئيس أوباما إلى الرئيس عدلي منصور في اليوم التالي لخروج الشعب المصري في 26 يوليو استجابة لدعوة القائد العام للجيش المصري، مهنئاً بذكرى ثورة 23 يوليو، ومؤكداً التزام بلاده بمساعدة الشعب المصري على تحقيق الأهداف الديمقراطية التي قامت من أجلها الثورة.. وأن بلاده ستظل "شريكاً قوياً للشعب المصري في مسار بلاده نحو المستقبل.. داعياً لتجنب التحريض والعنف لبناء دولة مصرية تحقق القوة والديمقراطية والرخاء..

وحينما أقرأ رسالتك الأولى أقدرك، وعندما أسمع بيانك الثاني أتعجب! إذ قال المتحدث الرئاسي الأميركي إن "القمع" الذي أدى إلى مقتل 80 شخصاً "يعيد العملية الديمقراطية في مصر إلى الوراء، ولا يتجاوب مع تعهد الحكومة الانتقالية المصرية باستعادة الحكم المدني بسرعة"، نافياً أي تغيير في المساعدة العسكرية لمصر.. متجاهلاً أو جاهلاً بحقائق ما جرى في شارع النصر أو ما يجري في الواقع!

أما بيان الخارجية الروسية فقد جاء أكثر توازناً وإيجابية، حيث ركز على حفظ الحريات والحقوق مع حفظ الأمن والنظام معاً، بقوله "المخرج الوحيد من الوضع المعقد الراهن، يتحقق عن طريق تخلي القوى السياسية في مصر عن الرهان على استخدام القوة أو العنف، ما قد يؤدي إلى المزيد من التصعيد والضحايا"، و"نعول على أن السلطات المصرية ستنطلق من أولوية ضمان احترام حقوق وحريات المواطنين.

والحفاظ على الأمن العام والنظام القانوني"، وتدعم فكرة إطلاق حوار وطني شامل "من أجل إعادة الوحدة الوطنية ووقف العنف وتنفيذ الإصلاحات التي تستجيب لطموحات المجتمع المصري بمكوناته الدينية والسياسية".

وحين كانت المفوضة الأوروبية كاترين آشتون تزور مصر ثانية، قالت إن النظام السابق (برئاسة مرسي) لم يحقق مطالب وتطلعات الشعب المصري، وإنها تدعو كافة الأطراف لضبط النفس والبعد عن التحريض والعنف. وفي تصريحات سابقة لها عن مصر، قالت آشتون: "أوروبا كلها تحترم عبدالناصر لأنه كان خصماً شريفاً تولى رئاسة مصر في أحلك ساعات التاريخ المصري، ولو عاش عبدالناصر لكانت مصر دولة عظمى في الشرق الأوسط".

من جانبه، جدد بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة، الدعوة لإطلاق عملية سياسية سلمية وشاملة، لبناء المستقبل الديمقراطي، داعياً الجميع لضبط النفس.. وداعياً إلى إطلاق سراح الرئيس المعزول وقادة "الإخوان" أو محاكمتهم بشفافية. أما إقليمياً فقد بدا الموقف التركي مثيراً للشفقة، إذ يدور حول نفسه مطلقاً تصريحات تنم عن الشعور بالدوار وفقدان التوازن.

حيث يقول رئيس الوزراء رجب أردوغان، إن بلاده "لن تصمت وتقف موقف المتفرج أمام المذابح - على حد وصفه - التي يتعرّض لها المتظاهرون السلميون في مصر على يد قوات الأمن، وإن صمت العالم أجمع". وهنا نرى المواقف والتصريحات الإيرانية تجاه الأحداث المصرية أكثر اتزاناً من تصريحات رئيس الوزراء التركي، الذي "نسمع كلامه نصدقه نشوف أموره نستعجب". أما الموقف العربي فإيجابي عموماً، بموقف الجامعة العربية الداعم لثورة يونيو الشعبية والداعي لنبذ العنف وإجراء التحول الديمقراطي سلمياً بمشاركة جميع التيارات السياسية المصرية.

لكن الموقف الخليجي يتقدم المشهد العربي، وفي مقدمته تقف دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية والكويت والبحرين.. وعلى المستوى الوطني، لا بديل عن التوافق والعيش المشترك بحرية وسلمية وعدالة، كي نحقق التنمية لكل المواطنين المصريين.. فلن يمر الجميع من الأزمة، ما لم تدرك جميع التيارات الأساسية، الإسلامية والليبرالية والقومية واليسارية، أن تياراً واحداً ليس بمقدوره إقصاء بقية التيارات والانفراد بحكم مصر، لأن مصر لن تحكم إلا بالشراكة الوطنية، سواء بقانون القوة أو بقوة القانون.

 

الأكثر مشاركة