لا يمكن للعقلاء أن ينكروا التشظيات التي تعيشها مجتمعاتنا اليوم، وأن الانقسامات المريعة المتزايدة اليوم، لا يمكن أن يتجاهلها كل من خبر تموجات تاريخ مجتمعاتنا وخطوات تقدمها وتأخرها، تحدياتها واستجاباتها، ومجتمعاتنا رهينة في يد من يحكمها، وتتولى النظم السياسية مسؤولياتها من خلال السلطات الرسمية وأجهزتها.. وقد أصبحت لمجتمعاتنا قوى متسلطة، تضطهد العقل والقيم والأفكار تحت مسميات شتى.

لقد كنت قد أسميت ذلك منذ أكثر من عشرين سنة بـ"شقاء الوعي"، وها أنا ذا اليوم أجد حالة يتفاقم خطرها ممثلة في "اضطهاد العقل"، الذي يعيشه أي عاقل عربي، حقيقي الوطن، حر التفكير، مستنير العقل، جريء الرأي، قوي الإرادة في مجتمع طالته أوبئة الأضاليل والجهالة والتفاهات، والآراء البالية، والنزعات الشريرة، والتناقضات الحادة، وموجة الطائفية البغيضة والانتقال من العنف "الثوري" إلى العنف الهمجي.. أي أن أي عاقل واع أو مثقف حقيقي، يبدو اليوم كالشمعة التي تبقى صامدة في ظلام دامس يندر فيه الأوكسجين، حتى تذوى وتموت!

إن المعنى الحقيقي لاضطهاد النخب العاقلة والمفكرة، يكمن في معاناتها من أوضاع بائسة وبيئات موبوءة بالتخلف المرير.. وقد عبّر العديد من المثقفين العالميين عن ذلك المعنى من الوجع الذي أنتجته تجاربهم المريرة، سواء في عزلتهم الفكرية، أو غيبوبتهم السياسية، أو في تشردهم وضياعهم، أو في منافيهم القصية، خصوصا أولئك الذين كانوا يعملون من أجل استنارة مجتمعاتهم وتغييرها.

إن كلا من الشقاء والاضطهاد معا لا يتأتيان بواسطة سلطات سياسية لوحدها، بل يأتيان أيضا عبر سلطات اجتماعية، لها ممارساتها الأبوية ونفوذها القاهر وأساليبها المتوحشة في فرض إرادتها، بل إنها تعتقد اعتقادا راسخا أنها وحدها مالكة للحقيقة، وهي صماء بكماء عمياء لا تفقه شيئا من حياة العصر.

إن تفاقم الانقسامات السياسية قد ولّد تشظيات اجتماعية مفجعة، ليس بتأثير هزّات سياسية وصراعات إيديولوجية فحسب، بل في ظل حكومات دكتاتورية نشرت التخلف وعمقت التدنّي الوطني والإنساني، والمصيبة أن تصطف النخب مع الرعاع، ويصفق البعض لكلّ ما جرى من حماقات منذ نصف قرن مضى.

لقد انتقل الخراب إلى مجتمعاتنا بحيث نجدها تتمزّق أمام أعيننا، بإثارة الأحقاد الدفينة، وتزوير التاريخ، وتشّويه الصفحات، ويتفجر الكبت المخزون، وتطغى لعنة الطائفية والمِلَلية والجهوية والعشائرية والانغلاقية، وتوزع الأحكام الظالمة على العقلاء، ويتهمون ظلما وعدوانا بتهم بشعة لا صحة لها في هوياتهم وانتماءاتهم وأخلاقياتهم وقيمهم، من خلال الوسائل الجديدة.. إنه اضطهاد عقيم موبوء بكل العبثية والتوحّش.

إن الفوضى ليست هي الديمقراطية، وكأن هذه الأخيرة قد وجدت لتمزيق المجتمعات، لا لإيجاد السبل الناجحة لتطورها. مجتمعاتنا اليوم تعيش مأساة حقيقية، فهي تحمل انقساماتها التي كانت مخفية منذ زمن بعيد، ولم تكن سابقا تعبّر عن مكنوناتها، وتشيح الأغلفة عن انقساماتها ومكبوتاتها.. اليوم، وبدل أن تحاور مجتمعاتنا بعضها الآخر، راحت تتمزق ويقتل كل مجتمع بعضه بعضا، أو يرفض بعضه بعضا.. وتجد استقطاباته الحادة، وخصوصا عندما تجد النخب العاقلة تضمحل إزاء ملايين هادرة في الشوارع، أو صامتة في البيوت! إن الناس الذين يعّبرون عن وطنيتهم وإنسانيتهم وعقلانيتهم، بعيدا عن أية انقسامات أو نزعات، يضطهدون اليوم إن سلموا على حياتهم، أو تراهم يسكتون وهم يكظمون غيظهم!

ولعلّ "الحريات" في مجتمعاتنا غير مسؤولة أبدا، إذ زرعت الأحزاب الخطيرة الفوضى ضمن أجندة خطيرة داخلية أو خارجية، فأصبح كل من هبّ ودبّ دكتاتورا من مكانه، يمارس أشنع الممارسات ضد الآخرين، ممّن لا يتلاقى معهم..

وبطبيعة الحال، لم يلتق العقلاء والأحرار وكل المتمدنين، مع المتزمتيّن والمتعصبين والمتطرفين والتمييزيين والطفيليين والطائفيين، الذين لا يؤمنون جميعا بالديمقراطية أساسا.. ولم يلتق العلماء والنقاد والمفكرون المستنيرون، مع أدعياء الكلمة والكتّاب المهرجين والراقصين السياسيين، الذين وجدوا الساحة مفتوحة لهم وحدهم في المحافل وعلى شاشات التلفزيون والشوارع.. الخ.

إن من أصعب المشكلات لدى العقلاء، هي حرياتهم المكبوتة عندما يضطهدون من أناس تافهين.. العقلاء في مجتمعاتنا يحاربون أشباحا ظلامية، تريد الانقضاض عليهم والفتك بهم.. والعقلاء يجدون أنفسهم لوحدهم في الميدان يصارعون كل قوى الظلام!

إن اضطهاد العقل قد وصل إلى خنق الوعي، بحيث لا يكتفي الغلاة والأدعياء والجهلاء بما يمررونه على الناس إعلاميا، بل يصّرون على أخطائهم وترويجها! يرفضون الآخر وكأنه مزبلة أو جيفة ينبغي رميها وراء الحدود!

إن أصعب ما يمارس من اضطهاد هو ذاك الذي يمس عصب الوعي.. إنهم لا يكتفون باضطهاد الإنسان أو حتى قتله والتشفّي فيه، بل التشكيك بأخلاقياته وأسلوب حياته وتغييب هيبته، إذ جعلوا أنفسهم أوصياء على الناس وهم بلا معرفة، وبلا ثقافة، وبلا أخلاق، في مجتمع عاش تاريخه كله وهو يجذب الناس ويستقطبها إليه، أو يطردها ويبعدها عنه.. إنهم لا يعرفون أن الأمم بأخلاقها تبقى، فإن اضمحلت أخلاقها، وانحطت حياتها، انهارت بكل تعاساتها وذهبت مع الذاهبين!

إن من ضرورات مستقبلنا، أن نقف ضد هذه الفوضى الشنيعة، التي تجتاح أغلب مجتمعاتنا وكيف سحقت منظومة القيم.. إن التصدي لتلك القوى البليدة، سيقلل من فرص تدميرها للحياة.